الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غاستون باشلار: السقوط المتخيَّل (4/2)

ترجمة: سعيد بوخليط

2022-06-11 09:18:27 AM
غاستون باشلار: السقوط المتخيَّل (4/2)
غاستون باشلار

بدوره أدرك إدغار بو، بأن حقيقة السقوط المتخيَّل واقعة ينبغي رصدها ضمن الجوهر الموجِعِ لكينونتنا. ترتكز قضية خالق الحُفَر المتخيَّلة على إفشائه المباشر لهذا الوجع. يلزمه العثور على وسيلة كي يبثّ هذا السقوط المتخيَّل في روح القارئ قبل عرض فيلم الصور الموضوعية. التأثير أولا، ثم الاستعراض بعد ذلك. خلال مرحلة تالية، سيشتغل جهاز الرعب الاستطرادي، فقط حينما يلامس الكاتب الروح بفزع حقيقي أثَّر عليه في الأعماق. 

يكمن سرّ عبقرية إدغار بو، في استنادها على تفوق الخيال الديناميكي. مثلا، منذ الصفحة الأولى لقصته المعنونة بـ"البئر والبندول''، وقد غمرتها بعد ذلك وقائع مرعبة، فقد بدا السقوط المتخيَّل تحديدا وفق خاصيته الجوهرية (1): ''جليَّة هي حلكة الظلمات؛ تبدو معها جل الأحاسيس كما لو ابتلعها غطس مجنون ومسرعة بالروح نحو الهاوية. أضحى الكون، مجرد  ليل، وصمت، وسكون. ثم انتابني الاضمحلال في غضون ذلك''. يصف إدغار بو الاضمحلال، باعتباره سقوطا بكيفية ما، صوب داخل كياننا. سقوط أنطولوجي، يختفي معه تناوبيا الوعي بالكائن الفيزيائي، ثم الكائن المعنوي.

إذا أدركنا كيفية أن نحيا بالخيال الديناميكي ضمن نطاق المجالين- بمعنى حين امتلاكنا حقا وفقط الكائن المتخيَّل، كصيغة أولى للنفسية- يمكننا بحسب تصور إدغار بو استحضار(ص 114): "مختلف الذكريات البليغة المتعلقة بهوَّة عابرة للمجتمعي. سؤال ماهيتها؟ ثم كيف نميز على الأقل ظلمتها عن ظلمة القبر''؟ للأسف! تحولت  القصة  بعد ذلك إلى ميكانيكا مغلَّفة بالرعب؛ أفقدت الأخير هالته العميقة، وكذا الخاصية الإيقاعية للحلكة التي جعلت بداية القصة مؤثرة للغاية. لكن بمهارة استُعيدت تيمات هذا ''الافتتاح الأسود''، مكَّنت القصة في مجملها  المحافظة على إحدى الوحدات الأكثر قوة: وحدة الهوّة. وحدة عظيمة، تشمل بسهولة القيم المعنوية.

يشير إدغار بو بين طيات إحدى فقرات عمله ''مارجيناليا'' (حكايات ساخرة، ترجمة إيميل هينيكان، ص209) إلى احتمال حدس فناء كائننا بعد الموت، خلال لحظات الإغماء: "ويمكن حدس خطر هذا الفناء فترة النوم، وأحيانا بشكل واضح أكثر، خلال الإغماء''. خارت قواه، ثم اتصافه بعجز، يعني بروز مرادف كبير للخيال والأخلاق.

يشعر السارد من جهة أخرى، بعجزه عن تقديم انطباع بخصوص هذا السقوط الأساسي، ضمن مضمار الموت والهُوَّة، دون أن يستمد مجهودات تتيح له إمكانية الصعود  ثانية، و''ألتقط بعض آثار هذه الحالة الجلية التي انزلقت روحي صوبها؛ تظهر لحظات حلمت خلالها بالنجاح''. مجهودات الصعود تلك، وقصد الوعي بدَوْخة تضفي على السقوط نوعا من التموج، تجعل السقوط المتخيَّل مثالا عن النفسية المتموجة لا يتوقف معها تبادل تناقضات الواقع والمتخيَّل، فتتوطد وتحرضها لعبة متناقضة. 

إذن تشتد الدَّوْخة في خضم هذه الجدلية المرتجفة بين الحياة والموت، تلامس السقوط اللانهائي، وكذا تجربة ديناميكية لا تنسى طبعت بعمق روح إدغار بو (ص 115): ''تمثل لدي بإبهام أطياف الذكريات تعبيرات رمزية كبيرة تنتزعني ثم تأخذني بهدوء نحو الأسفل، دائما  الأسفل فالأسفل، غاية اللحظة التي أتعرض خلالها لضغط دَوْخة مرعبة لمجرد فكرة لانهائية الانحدار… ثم أحس بغتة بجمود مختلف الكائنات المحيطة؛ كما لو أن من يحملني- موكب أشباح! قد تجاوز إبان انحداره حدود اللا-حدود، ثم توقف مقتنعا بلانهائية ضجر مهمته… ثم بدا كل شيء مجرد جنون. جنون ذاكرة تهتزُّ بين طيات المروِعِ''. مثلما نلاحظ، يمزج هذا التأويل بين عقل"كئيب"، جسد "خارت قواه''، خيال ''يسقط''، مما حقق فعلا صلة الصورة بالمجاز المميز جدا لـ ''الصورة الأدبية". 

سنعاين مع ''الصورة الأدبية'' للسقوط، تجليا لفعل تأويل نسجته رواية من الخيال، لأن خاصية الخيال الأدبي تأويل صوره. يصمم الفكر التأويل تبعا لجميع الواجهات، يستدعي ماضيا هائلا، ويعمل على تكثيف  كتلة متعددة المعاني للأحلام والرعب. تبعا لذلك، اختُزِل إلى الأدنى، السرد العجائبي المتصوَّر بدقة، بحيث لم يحصل قط ''موكب الأشباح''، على أيَّ رمز، ولم يتبلور مجهود معين بهدف إعطائه جسدا أو قِواما. يدرك الشاعر جيدا إمكانية تخيُّل الحركة بكيفية مباشرة، يثق خياله الديناميكي في الخيال الديناميكي لقارئ يجدر به استيعاب الدَّوْخة ''بهدوء''.

ليس بوسعنا حقا الانتماء إلى هذا العالم المتخيَّل، جراء سوء تقدير بخصوص هذه المعرفة الديناميكية للإغماء المتخيَّل، والسقوط الأنطولوجي، ثم السعي المتموج للانهيارات، وكذا سوء تقدير بخصوص بذل مجهودات قصد الولادة ثانية والصعود مرة أخرى. عالم متخيَّل، يتأتى في إطاره للعناصر المادية الحلم داخلنا، وحيث ترسم مادة الأشياء مع المادة ''نسيج عنكبوت حلم ما'' (ص 114) "الذي لم يعرف تجربة الإغماء، لن يكتشف أبدا قصورا مذهلة ووجوها مألوفة بكيفية غريبة من خلال جمرات متوقدة؛ ثم تأمله رؤى سوداوية، عائمة هناك وسط الهواء، يستحيل على العامي إدراكها؛ ولا يمكنه إمعان النظر في أريج وردة مجهولة، ويتيه دماغه بين ثنايا لغز لحن لم يسترع انتباهه قط سابقا'' .

 حساسية صقلها تضاؤل الكائن، تكمن بالمطلق تحت تبعية الخيال المادي. تحتاج تحولا يجعل كائننا هوائيا أكثر وأرضيا بكيفية أقل، ثم قابلا باستمرار للتشكُّل وأقل اقترابا من الأشكال المرسومة. تكبر هذه الحساسية، جراء تراجع الوجود داخلنا وتخضع إلى التأثيرات الفيزيائية للكلام، كما لو يتحقق ذلك بتحفيز مباشر. 

إذا أجهد الكلام نفسه بخصوص استحضار صور مرئية، سيفقده ذلك جانبا من قوته. الكلام تلميح للصور وانصهار لها؛ وليس بمقايضة لمفاهيم جامدة. إنَّه سائل أمكنه التأثير في كائننا السلس، نَفَسٌ استطاع أن يفعِّل داخلنا مادة هوائية، عندما ''تخفَّفَ'' كائننا من أرضه. 

أيضا، بالنسبة لإدغار بو الذي عاش تجربة، التحليق مع الأحلام في الهواء ومقاومة فكر السقوط الذي يتوخى انزلاقنا، توشك فعلا قوة الكلمات أن تغدو قوة مادية، يحكمها الخيال المادي: ''ألم تشعر حينما أخاطبكَ، بأن فكركَ تعبره فكرة معينة متعلقة بالقوة المادية للألفاظ؟ أليس كل كلام حركة خُلِقت في الهواء؟'' لا شيء هنا، ينطوي على تنجيم. يتعلق الأمر، بتأمل شارد أكثر بساطة وفورية.                 

هوامش: 

مصدر المقالة:

Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp112-115.

(1) إدغار بو : حكايات جديدة غريبة. ترجمة  بودلير،ص 113 .