الحدث - محمود فطافطة
يتساهل الكثيرون في الاستدانة، ويعجز أكثرهم عن الالتزام بالسداد. منهم من يماطل لسنوات، وآخرون يتنصلون من الدين نفسه، في حين أن البعض لا مناص لهم سوى الدفع بعد أن تطالهم يد العدالة وقوة التنفيذ. إنها الديون التي تتثاقل على العباد كالحبل الذي يشتد وثاقه على الرقاب. إنه الدين الذي كان النبي محمد عليه السلام يستعيذ منه دوماً. إنه الدين الذي قال فيه الإمام علي بن أبي طالب موصياً ولده: "يا بني ذقت المرارات فلم أجد أمر من الحاجة إلى الناس، ونقلت الحديد فلم أجد أثقل من الدّين".
في هذا التقرير سنتطرق إلى قضية يرى فيها كثيرٌ من الناس هماً في الليل ومذلة في النهار. إنها قضية الديون التي لها تأثيرات سلبية وخطيرة على المستدين. وفي هذا التقرير سنعرج على هذه المسألة من خلال إطارها الديني والاجتماعي والاقتصادي والنفسي لنتعرف، بصورة واضحة، على واقع هذه " المشكلة/ المعضلة" وأبعادها على الذين أدمنوا الاستدانة لتتحول إلى مهنة لهم، أو لأولئك الذين تعرضوا لأزمات مالية خانقة فاضطروا للاستدانة ليبقوا تحت عذاب الديون وقسوتها.
نصوص قاطعة!
وقبل الدخول في تبيان آراء الباحثين والمواطنين في هذه المسألة ـ التي سنركز فيها على الديون بين الناس، وليست المستحقة عليهم نحو المؤسسات والبنوك وغيرهاـ سنطوف قليلاً في رحاب السنة النبوية، والتي تؤكد خطورة الدين على العباد، سيما على أولئك الذين يرفضون أو يماطلون في سداده. يقول الرسول عليه السلام في هذا الشأن: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحللها من صاحبه من قبل أن يُؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم...". وقد روي عنه أنه كان يتورع ويمتنع عن الصلاة على الرجل الذي عليه دين حتى يقضى عنه دينه كما في سنن الترمذي: "أن النبي عليه السلام أتى برجل ليصلي عليه، فقال: صلوا على صاحبكم فإن عليه ديناً". كما وكان عليه السلام يستعيذ بكثرة من الدين فقال له رجل يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال رسول الله: "إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف". وكان عليه السلام كثيراً ما يدعو: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وقهر الرجال".
كذلك يعتقد البعض أن الاستدانة أو الاقتراض من الآخرين وسيلة مشروعة للكسب؛ فتراه يحتال ويتظاهر بالحاجة والأزمة ليحصل على القرض ثم يأكله ولا يبالي بصاحبه مطلقاً ويرى أنه صار حقاً له ثم يمضي ويختفي ولا يحدث نفسه بالسداد وربما بعض الناس يرى أن هذا التصرف من كمال العقل والفتوة. وقد ورد في هذا الصنف من الناس وعيد شديد كما جاء في الصحيح: "ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله".
أما من نزلت به نازلة وضاقت عليه السبل فاقترض قرضاً ليرفع فاقته وهو يضمر وينوي السداد بنية حسنة ثم عجز عن ذلك فلا يلام شرعاً ولا يؤاخذ في الآخرة، وقد تكفل الله بسداد دينه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه". ومن هذه الصور التي تنتشر في مجتمعنا قيام البعض بالاستدانة من أجل الزواج. فمن استدان من أجل أن يتعفف ويحصن نفسه من الحرام فإن الله سيعينه على سداد ما عليه من ديون، حيث يقول الرسول عليه السلام في هذا الشأن: "ثلاثة حق على الله عونهم المكاتب يريد الأداء والمتزوج يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله".
أسباب وأشكال
إلى ذلك، جاء في دراسة بعنوان "خطر الدين على ذمة المؤمن" لخالد بن سعود البلهيد، أن من الأسباب التي تدفع للاستدانة: الإكثار من الاقتراض في كل مناسبة، الاقتراض لأي أمر ولو كان من الكماليات والتحسينات، التسويف والتأخير في قضاء الدين مع القدرة على السداد، إشغال الذمة بديون متجددة مع عدم سداد الديون المتأخرة عليه، اقتراض أموال كبيرة مع أنه يوقن على عدم قدرته على السداد في المستقبل، اقتراض المال لغرض محرم وفعل المعاصي.
وبخصوص التعمق والاستمرار في الاستدانة، فله أسباب (وفق الدراسة) أهمها: ضعف الوازع الديني وقلة الإيمان في باب الحقوق والمظالم، التساهل في الدين والتهاون فيه، التأثر بالبيئة المحيطة وأعراف الناس الفاسدة، الإسراف في الكماليات والزينة، الافتتان بالأسفار والرحلات، والمبالغة والتكلف في إكرام الضيوف.
يقول الخبير الاقتصادي د. نصر عبد الكريم أن الديون لها شكلين، أولهما استدانة شخص من آخر، وثانيهما متمثلة بالديون المترتبة على الأفراد لمؤسسات كالبنوك والمحال التجارية وغيرها. ويضيف: "إنه نظراً للظروف القاسية التي يمر بها شعبنا فإن نسبة الديون تتزايد سيما بين الناس، موضحاً أنه يوجد مفهوم يُعرف بـ" الاقتراض بالعجز"، ويعني أن الموظف الذي يعجز في منتصف الشهر، مثلاً، في مواصلة تلبية مطالب المعيشة وغيرها لقلة راتبه يضطر للاستدانة والاقتراض من هذا أو ذاك".
أما أستاذ الفلسفة الإسلامية د. بلال زرينة فيبين أن للديون آثار سلبية على الجانب الأخلاقي، وفي هذا الإطار يورد الحديث الصحيح عن النبي عليه السلام من أنه كان يستعيذ كثيرا من ( المأثم والمغرم ) فقالت له عائشة: أراك كثيراً ما تستعيذ من المغرم ؟ فقال لها:" إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف" والمغرم هو الدين.. هذا الحديث ( وفق د. زرينة يشير إلى أثر الاقتراض على السلوكيات الاجتماعية خصوصاً عند العجز عن السداد).
ألغام اجتماعية
من جانبه يذكر الباحث الاجتماعي محمد الشلالدة أن ظاهرة الديون ظاهرة قديمة/ حديثة، حيث يقول: "تعد ظاهرة الاستدانة المالية الشعبية من الظواهر الملازمة لواقع حال مجتمعاتنا؛ فحجم ومساحة انتشارها تقصر وتطول تبعاً للتحولات الاجتماعية التي شهدتها هذه المجتمعات وهذا ما يستدعي تناولها بنوع من الاهتمام لكونها تحمل العديد من الدلالات منها الإيجابي والذي يرتبط بطبيعة التماسك والتضامن والاحتضان الاجتماعي، ومنها أيضاَ السلبي والمرتبط تحديدا في المآلات والتبعات الاجتماعية والنفسية للاطر الزمنية والاجتماعية لهذه الظاهرة وهذا بتقديري ما يجب التوقف عليه لما يحمل من مؤشرات ذات دلالات عميقة يمكن الركون عليها في قياس المناخات الكيمائية لهذه المجتمعات لكونها تمس البعد القيمي والأخلاقي".
ويضيف: "لا نبالغ في القول إنها تشكل اختبارات حقيقية لمنظومة القيم التي يستند عليها واقعنا الاجتماعي. وفي ظل ما تعانيه الغالبية العظمى من أبناء مجتمعنا من ضائقة مالية يدفع بالعديد من فئات مجتمعنا إلى الاستدانة حتى يقوم الفرد بتأمين الحدود الدنيا من شروط المعيشة وهكذا دواليك وتحت ضغط ثقافة الاستهلاك المتغولة في واقعنا النفسي يصبح الفرد منا يعيش في دائرة مفرغة ومغلقة دون الخلاص، عندها تصبح الاستدانة من حيث التبعات بمثابة ألغام اجتماعية ونفسية سرعان ما تنفجر لتولد على أقل تقدير خصامات وخلافات تضعف النسيج الاجتماعي".
بدوره يقول الباحث طارق الشرطي: "اقتراض الأشخاص من بعضهم البعض أمراً قديماً، وأن منسوب هذا الاقتراض يعتمد على الوضع الاقتصادي في المجتمع وكيفية توزع الدخل بين شرائح المجتمع". ويضيف: "إن سوء الظروف المالية وكثرة الاحتياجات تجعل من الكثيرين يلجئون للاستدانة سوء من البنوك على شكل قروض أو من زملاء لهم ذوي الدخول العالية وميسوري الحال، وتزداد تلك الظاهر كلما ازدادت الحاجات من جهة أو قل الدخل من جهة أخرى، ومثال على ذلك ما يحدث في قضية صرف جزء من الراتب لطبقة الموظفين في الوظيفة العمومية، مما جعل جزءاً كبيراً منهم يلجأ للاستدانة ليتمكن من دفع أجرة بيته والماء والكهرباء والطعام".
دوامة الهم!
ويوضح الشرطي: "الأسوأ في هذه الحالات أن الاقتراض من البعض تجعل من المستدين في دوامة التسديد المستمر طالما الدخل لا يكفي، فحين يحصل على المال المنقوص خاصة ويبدأ بالتسديد لا يبقى معه ليكمل مصروفاته حتى آخر الشهر مما يجعله يستدين مرات ومرات، مما ينعكس عليه اضطراب اجتماعي سيء وشعور بالسخط والانضغاط من العبء الذي يعانيه بل وجزء منهم يصبح غير مبالياً وطلب الاستدانة من أي شخص أمراً عادياً ومنهم يخلق المشاكل الاجتماعية بعدم أو إطالة الدفع، أما عن الشخص الذي يقدم الاستدانة فهو مهما كان وضعه جيد إلا أنه ينتظر عودة أمواله له وخصوصاً أن أغلب الفئات بالمجتمع هي ذات الدخل المتوسط".
وفي السياق ذاته يلخص الكاتب صلاح حميدة الحالة النفسية لمن يقوم بالاستدانة بالقول المأثور"هم في الليل ومذلة في النهار". ويقول: "في هذه الأيام استشرت حالة (الاستدانة) من البنوك والمؤسسات والمتاجر والأشخاص، ولكون المناطق الفلسطينية تعيش أزمة اقتصادية خطيرة ﻷنها أصبحت منتجة بالحد اﻷدنى وتعيش على المساعدات وعلى مزاج الاحتلال، فهناك قلق مزمن لدى من استدانوا ﻷي سبب من اﻷسباب، فالدائن والمدين قلقان ومتوتران ويتابعان على مدار الساعة توقيت قطرة المساعدات أو التحويلة المالية، وهذا انعكس أيضا على العلاقات الاجتماعية بين الناس التي تأثرت بالحالة النفسية المرتبطة بذبذبة وغموض واقع ومستقبل الحالة الاجتماعية، فأصبحت العلاقات اقرب للمصلحية والانتهازية وفي بعض الحالات أقرب إلى سلوك الغابة، مما أدى لبروز ظاهرة الجريمة الاقتصادية بشكل واسع والتي لم تجد الآلية القانونية الحالية في إنهائها أو حتى تحجيمها، مما عزز الشقاق الاجتماعي وانعدام الثقة بينهم وجنوح بعضهم نحو استخدام القوة لمحاولة استرداد حقه.
ويرى حميدة أن الحل يكون بإتباع المثل القائل: "على قد حرامك مد رجليك"، مضيفاً: "يجب البعد عن السلوك الاستهلاكي، وتفعيل الاقتصاد المنزلي لزيادة الانتاجية وتقليل المصاريف، وهذا بحاجة إلى ترسيخ قناعات فردية و برامج تثقيفية وإرادة شعبية أيضاً".
الكاتب سري سمور يذكر: "أن الاستدانة ليست جديدة في مجتمعنا والمجتمعات الأخرى ولكنها تزيد في ظل الأزمات المالية، والدين هم في الليل مذلة في النهار، كما أن المدين يفقد ثقة الناس ويحتاط في العلاقة معه على اعتقاد أن العلاقة معه تؤدي إلى طلب مال أو قرض، لكن الحالة تختلف من شخص لآخر فهناك أشخاص اعتادوا على الاستدانة وعدم الالتزام بالتقسيط ولا يخجلون". ويختم قائلاً:" الأمر يؤدي إلى الخوف وتراجع الثقة بين الناس وكثرة الحرص على المال".
الطالبة داليا صعايدة تذكر أن الاستدانة لها تأثير على الحياة الزوجية مستقبلا من ناحية الزوجة ونظرتها لزوجها ستتغير، كما أن الزوج نفسه سيشعر بالنقص والإهانة لعدم تامين متطلبات الحياة، كما أن لها تأثير في نشأة الأطفال عندما يرون هذه العادة السيئة يصبح لديهم إتكالية، ويصبح الأمر لديهم عادي.
قضاء وحماية
وبخصوص القضاء يبين القاضي فاتح حمارشة أن هناك عدد لا بأس به من الدعاوى التي ترفع للقضاء حول الديون، سواء أكانت متعلقة بالأمور النقدية كقروض ومنها مبالغ عالية في حالات الزواج أو العينية كأخذ مواد تموينية من المحلات كدين مؤجل دون الالتزام بالدفع. ويضيف:" في بعض الأحيان يكون علاقة قرابة بين الطرفين وتؤدي المماطلة إلى نزاع وبالتالي تؤثر سلبا على العلاقات الاجتماعية".
إلى ذلك، فمن الوسائل التي تساهم في حماية الشخص من الديون، نذكر التالي:تدبير المال وحسن تصريفه وتقديم الأهم فالمهم، إدخار شيء من المال للحوائج والضائقات. وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني ألا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيئاً أرصده لدين)، الاقتصاد في الإنفاق على قدر الحاجة وعدم إنفاقه في السفاسف كما قال تعالى: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا"، القناعة والرضا بما قسم الله من الرزق والتكيف على حسب الظروف والإمكانيات، حيث يقول الرسول عليه السلام: "من أصبح آمناً في سربه معافا في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، التأني والتروي في شراء السلع وضبط النفس على التحكم في عدم شراء السلع الغالية. وقيل لإبراهيم بن أدهم إن اللحم قد غلا فقال أرخصوه أي لا تشتروه، الوعي بخطورة الدين وقراءة النصوص والآثار الواردة فيه، تربية أفراد الأسرة على حسن التصرف بالمال والادخار وتحمل المسؤولية المالية، تحكيم العقل في الدعايات وعدم الغلو في تتبع الموضة على حساب الديون.
قصص
في إحدى المؤسسات اشتهر أبو (x) بالاستدانة من معظم موظفي وموظفات المؤسسة وعرف عنه بعدم التزامه بالسداد وخصوصا تلك المبالغ التي لا تزيد عن المائة شيقل، أما المبالغ الأكثر فلا يسددها إلى حين مطالبتها مرارا وتكرارا حتى أصبح معروفا مما جعل الجميع يرفض إدانته، وخصوصا أنه أصبح منهك بالقروض البنكية ومؤسسات أخرى، وأسوأ ما يمثله هذا الموظف أن عزة النفس له كسرت وأصبح يستدين من أي شخص حتى وإن عرفه لبضعة أيام وخصوصا أن الذين يعرفونه لم يعدوا يمنحوه مالاً حتى أبسط المبالغ كونه لا يلتزم بالسداد.
الموظفة (s) طلبت من صديق لوالدها مبلغ من المال ادعت أنها سترده خلال بضعة أيام حالما تحصل على قرض بنكي. وبالفعل استدانت مبلغ يزيد عن ٢٤٠٠ شيكل ( علماً أنها طلبت أكثر من هذا المبلغ) وجرت الأيام دون أن تسدده، علماً أن مقرضها لم يطالبها بعد نزول الراتب كونه كان منقوصاً، فقط ٦٠ بالمائة من الراتب، واستمرت على هذا الحال لأكثر من راتب، ليصل بها الأمر إلى التهرب وعدم الإجابة على تلفونات المدين. وبعد أن أخبرها الدائن بأنها حصلت على قرض مقداره خمسين ألف شيقل أجابته بأنها دفعته لأمرٍ آخر، ولم تسدده المبلغ إلا بعد أن أبلغها بأنه سوف يأخذه من والدها، علما أن هذه القصة استمرت ما يقارب الثلاثة شهور بين وعود وتأجيل وكذب، ليفاجأ مقرضها بأن عليها دين أيضاً بقيمة ٥٥٠ شيقل لأحدى البقالات لأكثر من سنة ونصف ولم تسددها حتى الآن، مما يؤكد أنها أصبحت معتادة على الاستدانة والتهرب من سدادها.
خلاصة القول: الديون ملهكة للنفس وموجعة للضمير، وكلما استطاع المرء تجنبها كلما تجاوز الكثير من البؤس والعواقب التي لا تحمد. وبدلاً من أن يفكر المرء في الاستدانة عليه أن يرشد مصروفاته، ويعد ميزانية متوازنة للضرورات، ويقلل من الكماليات والبذخ.