الحدث – ريتا أبو غوش
تمتد التلال الجرداء من أطراف القدس وحتّى مشارف البحر الميّت لتغطي مساحة واسعة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، من شمال مدينة رام الله وحتّى جنوب بيت لحم، تلك هي بادية القدس.
تتناثر على تلك التلال قطعان صغيرة من الماعز الأسمر، ومضارب عشوائية للبدو، معظم بيوتها من الصفيح.. وسط هذا المشهد يمتد أوسع وأعرض شارع استيطاني في فلسطين، بعرض يزيد عن ثمانين متراً، ولا يتسع لأي مارّ إلّا ملاحظة شعارات الصليب الأحمر والاتحاد الأوروبي على تلك الخيام المبعثرة.
كلّ من يمرّ من ذلك الشارع يدرك أنّه ليس مخصصاً للفلسطينيين، هذه هي منطقة (E1) الاستيطانية، التي تمتد من شرق القدس حتّى مستوطنة "معاليه أدوميم"، حيث تلوح في الأفق نذر تهجير جديد للقبائل البدويّة التي سبق تهجيرها من موطنها الأصلي في النقب مطلع الخمسينات من القرن الماضي، ولعلّها نذر نكبة جديدة تهدد الفلسطينيين جميعاً.
وفي الوقت الذي توظف حكومة الاحتلال أساليبها المتنوعة بما فيها "القانونية" لتعميق مشروعها الاستيطاني في فلسطين، تبرز المنظمات الدولية كجهات فاعلة ثالثة في دور قد يبدو مساعداً وإيجابياً للعلن، لكنه يحمل في طيّاته تسليماً بهذه المشاريع الاستعمارية، إذ تقدم هذه الجهات الدولية دورها كأداة رادعة لأعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، وبصرف النظر عن محدودية الخطاب القانوني، فهي مسؤولة عن هؤلاء الذين تسعى لمساعدتهم في خطابها في الوقت الذي تنتهج فيه سياسة عدم المواجهة مع الاحتلال.
ولعلّ آخر تجليات التزامات هذه الجهات برز في منطقة شرق القدس، التي تشهد مشروع تهجير قسري جديد لأكثر من 24 تجمعاً بدويّاِ يقيمون في مساحة لا تتعدى 12 كم.
ويهدف المشروع إلى تجميع ثلاث قبائل بدويّة وهي الجهّالين والكعابنة والرشايدّة، ويتراوح عدد أفرادها بين خمسة وستة آلاف نسمة، "وتوطينهم" في كلّ من "بوابة القدس" على أراضي بلدة أبوديس من جهة، وقرية مجاورة لبلدة النعيّمة جنوب محافظة أريحا، وكلّ ذلك بهدف توسيع مستوطنة (معاليه أدوميم) وتشكيل شريط مستوطنات، يتراوح بين 3000-4000 وحدة استيطانية، يعمل على عزل مدينة القدس نهائيا عن بقية أراضي الضفة الغربيّة، إضافة إلى تقسيم الضفة إلى قسمين منفصلين تماماً.
تكريس الوضع الراهن:
وبينما تكثّف الإدارة المدنية، وهي جزء من السلطة التنفيذية لحكومة الاحتلال، هدمَ مساكن الفلسطينيين البدو شرق القدس خلال الأشهر الثماني الأخيرة تاركةً نحو ألف فلسطيني دون مأوى حتّى اللحظة، تتعهد الجهات الدولية من طرفها بتوفير المساعدات الإنسانية للبدو بغطاء إنساني بحت، كتوفير خيام وكرفانات جديدة لمن يخسر مأواه، وكلها محاولات يعتبرها مراقبون شكليّة لتحسين أوضاع المعيشة كتوفير المياه، عدا عن التقارير والإحصائيات التي ترفعها هذه المنظمات لأوضاع المجتمعات البدوية المعيشية، وزياراتها الدورية لتفقد أحوالهم.
الباحثة نورا مراد، ترى في أسلوب تقديم المساعدات مساهمة لانتهاك حقوق الفلسطينيين تحت مظلة القانون الإنساني الدولي. وفي بحث أعدته حول تواطؤ الجهات الدولية، أكدّت مراد أن هذه المنظمات الدولية ما انفكت منذ ثمانينات القرن الماضي تدعم الاحتلال وتعرض على الفلسطينيين مشاريع إنمائية مقابل التنازل عن حقوقهم.
وأضافت مراد في ورقتها أنّ: "إخفاق الجهات الدولية الفاعلة بالعمل بايجابية بما ينسجم والتزاماتها يكرس الوضع الراهن ويورّط الجهات الفاعلة في المعونة في الانتهاكات المستمرة".
وعلى الرغم من كون البند الـ49 من معاهدة جنيف الرابعة يعتبر اقتلاعَ السكانِ القسري جريمةَ حربٍ وجريمة ضد الإنسانية، تواصل المنظمات الدولية التعامل مع المشروع وما يواجهه بدو شرق القدس على أنّه نقل للسكان، وليس تهجيراً قسرياً. وبعيداً عن التلاعب بالكلام والألفاظ، ما زال دور هذه المنظمات، كما تعلن هي في نشراتها، يرتكز على سدّ الحاجة في حالات الطوارئ دون التحيز لأي طرف، أيّ التعامل مع تبعات المشروع الإنسانية لا مع مسبباته فضلاً عن محاولات ردعه أو إيقافه، إلّا أنّ ذلك يتعارض مع نهج وخطاب حقوق الإنسان الذي تتبعه المنظمات ذاتها الذي يقتضي منها توفير حماية دولية، أي ألّا توجه نشاطاتها في حالات الطوارئ فحسب، بل توفير طرق قانونية لمطالبهم وإيجاد آليات تعالج ما يتعرض له المجتمع المهدد بشكل جذري.
محدودية الخطاب تساعد الاحتلال في مشروعه:
يرى قانونيون أنّ محدوديّة الخطاب هذه، وفي ظل اقتصار عمل المنظمات على تقديم مساعدات إنسانية لا غير، توفّر مساعدة وعَوناً للاحتلال من خلال عدم مواجهة المشروع، واسترجاع حق المهدَّدِين من جهة، ومدّهم بمساعدات إغاثيّة عقب تهجيرهم وتخفف العبء عن حكومة الاحتلال من جهة أخرى.
باسم صبيح، مدير وحدة الدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين في مركز بديل، وهو مركز فلسطيني مختص بدراسات اللاجئين، أكدّ أنّ ثمّة قصوراً قانونياً لدى هذه المنظمات، وقد يكون متعمداً، حيث أنّه لا يتعامل مع الجذور القانونية والسياسية المتعلقة بالصراع على الأرض والتهجير الصامت كما أسماه، مضيفاً أنّ السياسة التي ينتهجها الاحتلال في مناطق (ج) التي تغطي ما يقارب 60٪ من الضفة الغربية ولا تلقى سوى مساعدات إغاثية فحسب.
وأردف صبيح أنّ هذه الجهات لا تتمكن من القيام بأي دور حماية للتجمعات التي تتعرض لعملية التهجير الصامت بقدر تخفيف تبعاته.
من جهته، أكدّ رئيس لجنة الدفاع عن الأراضي ومقاومة الاستيطان شرق القدس بسام بحر، أنّ المساعدات التي تقدمها المؤسسات الدوليّة وبالذات الاتحاد الأوروبي للمجتمعات البدوية شرق القدس هي مجرد تقارير دوريّة لا يتم تقديمها للجان حقوق الإنسان مطلقاً، وعديمة الجدوى على أرض الواقع.
وأضاف بحر أن المجتمع الدولي يرضخ للضغوط الأمريكية، ولم تبادر منظماته بأي خطوة للتصدي لهذا المشروع الخطير، ليس على مستقبل البدو فحسب بل على مستقبل الشعب الفلسطيني.
ولم يقتصر ذلك على المنظمات الدوليّة فحسب، بل طال مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل جاهدة لـ "تحضير" المجتمع البدوي من خلال التدخل بأسلوب حياته "البدائية" وتدمير نسيجه الاجتماعي، آليات تتقاطع مع المشروع الاستيطاني إن لم تكن تُمَهِد له، الأمر الذي أثار حفيظة القبائل البدوية في المنطقة.
من ناحيته، قال أحد شيوخ قبيلة الجهّالين عطالله مزارعة، لـ"الحدث" إنّ هذه المنظمات لا تقوم إلّا بالزيارات وجمع المعلومات وكتابة التقارير التي لا تسمن ولا تغني من جوع، مؤكداً أنّ مدرعات الاحتلال تشرع في هدم الخيم فور مغادرة الوفود الأوروبية لرصد آخر التطورات.
وأضاف مزارعة أنّ القبائل البدوية لم تتلقَ أيّ رد على كل رسائل المنشادة التي وجهتها للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والصليب الأحمر.
"تعدّي دورها كطرف حيادي"
وذكر مصدر قانوني رفض الكشف عن اسمه، أنّه وخلال اطّلاع جهات قانونية فلسطينية على الانتهاكات المتكررة بحق قبائل البدو، تبيّن أن الصليب الأحمر تعدّى دوره "كطرف حيادي"، فعقب كشف محاولاته المتكررة في توزيع الخيم على المهجّرين ومنعِه إياهم من نصبها في الموقع الأصلي، امتنع الصليب عن تقديم الخيم مؤخراً بحجة "تضارب المصالح" بين الطرفين.
وأضاف المصدرُ أنّ الصليب الأحمر تورط في دور وساطي بين الطرفين لإيجاد حل كتعويض التجمعات ماديّاً لقاء مغادرتهم المنطقة.
من جهتها، نفت الناطقة باسم الصليب الأحمر ناديا الدَبَسي لـ"الحدث"، ذلك نفياً قاطعاً، مؤكدةً: "أنّ الصليب لا يشارك بوساطة مماثلة، وقالت أنّ دورَ الصليب حيادي، وهو لن يتدخل إلّا في حال طلب أحد ممثلي القبائل التوسط بينهم وبين الإدارة المدنية".
وفي سياق متّصل، نشرت صحيفة "هآرتس" العبرية وثيقة أوروبية داخلية حول مقترحات لعقوبات ضد الاحتلال في حال إقدامه على مخالفة بعض "الخطوط الحمر"، أحدها البناء في منطقة (E1) وتوسيع المستوطنات المحيطة، وفي حال تخطي الاحتلال لهذه الخطوط ستتحرك المنظمة لمحاسبته دوليّاً. وقد تبدو المقترحات الأوروبية خطوة جريئة تصب في مصلحة الطرف الفلسطيني والتجمعات البدويّة، لكنّها تحمل في طياتها تلاعباً في "الخطوط" إيّاها.
وحول ذلك، قال مصدر قانوني لـ"الحدث" إن هذه الورقة "الجريئة" تمثل فرصةً للاحتلال لتوسيع استيطانه للأرض في مناطق أخرى كالقدس ومحيطها، إضافة إلى التلاعب بالخطوط الحمر لا سيما أنّها ركزّت على بناء المستوطنات في ما يسمى بـ"منطقة E1" دون التطرق للتجمعات البدوية وما تتعرض له من تهجير قسري.
وأردف: "أنّ المنظومة الدولية تملك خطاباً قانونياً فضفاضاً يسنح للاحتلال فرصة التلاعب بدلالات الألفاظ وتفاصيلها الأمر الذي يحقق من خلالها مبتغاه دون الخروج عن القانون الدولي، وهو ما يدركه الجميع وينكره في الوقت ذاته".
وجدد مزارعة تأكيده صمود القبائل البدوية في أرضها رغما عن مشروع حكومة الاحتلال وتقصير الجهات الدولية، مضيفاً: "نرفض ولن نقبل مغادرة المكان الذي عشنا فيه منذ عقود، إلّا حين تحرر النقب والعودة إليه، وسنحارب هذا المشروع بكل ما أوتينا من قوة".
مخططاتٌ ومشاريعُ تهجير قسّرية تتماشى وتعمّق المشروع الاستيطاني وتوسّعه في الأرض المحتلة، كان ضحيتها في الأمس بدو النقب عقب تجميد مخطط برافر وعدم إيقافه، واليوم بدو شرق القدس، وتجمعات فلسطينية أخرى في الغد. وما زال دور الجهات الدولية الفاعلة قيد التساؤل، فبين مساعدات إنسانية من جهة وخطاب فضفاض من جهة أخرى، تبعثرت الخيم وهُجّر سكانها ولم يعد لشعار المانح أهمية.