اقترحني واحد من الأصدقاء للظهور في برنامج ينتجه التلفزيون الإسرائيلي حول ترتيبات المغادرة، كان المعد والمذيع الإسرائيلي قد وضع أسئلته للحصول على أجوبة تساعد على معرفة كيف يفهم هؤلاء الذين سيعودون إلى أرض الوطن بعد غياب طويل.
الحدث الجديد الذي طرأ على مسيرة حياتهم، وكيف يفهمون مقدمات التسوية التي يجري إعدادها كمرحلة انتقالية، يفترض أن تؤدي إلى نهاية الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، وما هي رؤيتهم الجديدة لإسرائيل، هل هي مشروع وفاق واتفاق، أم أنها بقيت في ذهنهم على حال "العدو الصهيوني".
كنت من ضمن الفلسطينيين "التوانسة" متشوقاً للعودة، والشوق الزائد الذي يستولي على روحك وفكرك يؤثر على تحليلك السياسي، ويجعلك إيجابيا في التعامل مع ما يصلك من أخبار عن الاتفاقيات والتفاهمات التي تمت، وتلك التي أجلت لتتم في جولة مفاوضات أخرى، إن الشوق للعودة إلى الوطن ولقاء الأهل الذين حرمت من لقائهم تسعا وعشرين سنة، وظهور وعد بالعيش على أرض هي لك، والذهاب إلى مصير لم تتمناه فحسب بل كدت تفقد حياتك وأنت في الطريق إليه، كل ذلك يسوقك إلى انفعالات من نوع جديد لم يسبق أن شعرت بها من قبل، ويجعلك أكثر مرونة في تقويم الخلاصات السياسية خوفاً على حلمك الذي يوشك أن يتحقق من الضياع.
تحدثت لأول مرة من على الشاشة الإسرائيلية، كثيرون من زملائي اعتذروا عن الظهور على شاشة الذين دأبنا على وصفهم "بالعدو الصهيوني"، بعد إتمام اللقاء عرضت على ياسر عرفات ماذا قلت، رسم ابتسامة عريضة على وجهه وقال: "ما هي معركتنا لسه ما خلصتش، والإعلام هو واحد من أهم أسلحتنا.. كويس اللي أنت قلته".
اتفقنا ياسر عرفات وأنا على أن أهمية المنبر الذي نتحدث منه إلا أن الأهم هو ماذا تقول من على أي منبر يتاح لك، وذلك الاتفاق صار قاعدة أساسية تحكم أدائي في مجال التلفزيون، سواء كان فلسطينيا أو إسرائيلياً أو عربياً.
كانت عودتي إلى الوطن هي بداية مرحلة جديدة في عملي الإعلامي أسميتها بمرحلة الكاميرا.
اللقاء الأول
مع زهير بهلول وشمعون بيريز وعبد الوهاب دراوشة
زهير بهلول، نجم تلفزيوني لا يشق له غبار في الحوارات الذكية، كان برنامجه الأسبوعي "دردشات" يشبه إلى حد كبير البرنامج المصري النادي الدولي الذي ظهرت فيه لأول مرة، سوى أن زهير يختلف في الشكل والمضمون وإثارة الانطباع عن سمير صبري الذي كان نجما سينمائيا.
الظهور على التلفزيون الإسرائيلي، ينطوي على مزايا ومحاذير، المزايا تتلخص في أنك تقدم روايتك من تلفزيون يديره الخصم، وهذه كانت حجة زهير في إقناعي بالظهور في برنامجه، قلت له إني لا أحتاج إلى تشجيع فقراري في مجال العمل الإعلامي أن أظهر على أي شاشة تتاح لأن الناس ينتبهون إلى ما أقول وليس من أين.
غير أني طلبت من زهير أن لا يمس ولو كلمة واحدة من أقوالي، وافق على الفور وأوفى بوعده.
غير أن الظهور المطول على تلفزيون الخصم، ينطوي على محاذير تحتاج إلى الانتباه لعدم الوقوع فيها. فأنت من ذلك المنبر، تخاطب الملايين ومن ضمنهم جمهور غفير من أهلك الذين لهم مواقف سلبية مسبقة وبصورة تلقائية من الإعلام الإسرائيلي، فأي مفردات تختار كي لا تخلق لديهم انطباعاً بأنك تجامل الخصم بفعل تأثير المنبر الذي تتحدث منه، أو أنك تتحدث بلهجة مزايدة، كأنك تحاول إثبات وطنيتك وقوة انتمائك، مما يضيع عليك فرصة إقناع المتابعين بروايتك وعدالتها، لحسن الحظ أن السيد شمعون بيريز تحدث قبلي، وكان زهير بهلول قوياً في محاورته، ثم تلاه عبد الوهاب دراوشة وكان كذلك، وحين جاء دوري اتخذت من قوة أسئلة زهير وقوة أجوبة دراوشة أرضية مواتية كي أقدم عرضا مقنعا عن الفلسطيني الذي يحاور بيريز بمنطق هادئ ومتماسك، ومنذ تلك المقابلة من خلال قراءتي لرد فعل المتابعين، صرت من الفريق الفلسطيني الذي يكثر من الظهور على المنابر الإسرائيلية المكتوبة والمسموعة والمرئية.
الظهور على شاشة التلفزيون، يضعك في محاكمة لا يصدر الحكم عليك فيها قاضٍ واحد أو عدد محدود من المحلفين.
الذين يصدرون الحكم هم الملايين الذين يشاهدونك، والحكم لا يحدده فقط ماذا تقول أو ما لا تقول، فعلى أهمية ذلك، إلا أن هنالك عوامل أخرى، يسمونها قوة أو ضعف حضور المتحدث، وهنا تتضافر نبرة الصوت مع لغة الجسد مع اختيار المفردات السلسة والسهلة، مع القدرة على إيصال الفكرة في أقصر وقت. هذا ما ينبغي توفره أمام الكاميرا، أما ما قبل الظهور، فينبغي أن تكون على دراية كافية بالموضوع الذي ستتم مناقشتك فيه وبقدر ما يكون هذا الشرط بديهياً، فإن كثيرين يقعون في محظور قلة المعرفة فيما يُسألون عنه، خصوصاً في مجال المواقف السياسية، فيخسر المتحدث فرصته لأنه سيضطر للحديث بلغة الشعارات والعموميات، وهذا هو أكثر ما ينفر المشاهد ويدفعه للانتقال إلى شاشة أخرى.
في بداية العملية السياسية كان الإعلام الإسرائيلي باللغة العربية ساحة مهمة في التأثير على الرأي العام الفلسطيني، أما العبري فقد استغله الفلسطينيون الناطقون بالعبرية، وعندنا عدد كبير منهم وبالفعل كان لهم حضور مميز في التأثير على المستمع والمشاهد الإسرائيلي.
ندمت كثيراً لأنني لم أتعلم العبرية فكم هي ضرورية لأداء إعلامي مؤثر مع خصم تخوض معه تجربة جديدة عنوانها الاتفاق بعد العداء. وفي هذه الحالة فإنك تواجه معضلة صعبة وهي أن الاتفاق غامض ومستجد ومحفوف بالخطر، أما العداء فهو عميق وطويل الأمد، خصوصا وأن تجربة الاتفاق بدأت وما يزال الاحتلال قائما والاستيطان مستمرا والخلافات المتصلة بتطبيقات ما هو مكتوب على الورق تزداد مع كل يوم.
في أحد لقاءاتي مع التلفزيون الإسرائيلي، ووجهت بمحاور درس كل شيء عني، وذكرني بتصريحات كنت أدليت بها لمنبر عربي فيها تشكيك بصدق الجانب الإسرائيلي في تنفيذ الاتفاقات المبرمة معه، وضعني المحاور الإسرائيلي في زاوية الدفاع، إلا أن الدرس الذي استخلصته هو أساسية التحضير المسبق للقاء بما في ذلك معرفة ما تلزم معرفته عن موضوع الحوار والمحاور وعليك أن تضمن مسبقا أن لا يفاجئك المذيع بطرح موضوع لم تتفق عليه معه، لأن المفاجأة تربك، وتضعف إيقاعك وقدرتك على التأثير، وقد تبدو أقل دراية وكفاءة من محاورك في الأمر المعروض عليك.
حدث ذلك معي أكثر من مرة، وقد وضعت لنفسي جراء ذلك قاعدة لم أحد عنها وهي أولا معرفة المحاور جيدا وإلى أي اتجاه سياسي أو فكري ينتمي، وكنت أسأل المذيع قبل أن أوافق على المقابلة أن يزودني بذلك وبدقة، ثم تحصين نفسي بمعلومات وافية عن الموضوع الذي هو مدار الحوار، وهذه أمور ينبغي التقيد بها ليس فقط مع تلفزيون الخصم وإنما مع أي تلفزيون يجري حوارا معك.
كذلك .. على المتحدث السياسي أن يحرص على أن يكون اللقاء معه على الهواء مباشرة، فأنت لا تعرف حين يكون حديثك مسجلا ما الذي يحذفه المذيع وما الذي يبقيه، ولكن في حال أن تكون مضطرا للتسجيل خصوصا في لقطات المراسلين فلا تكثر من الشرح، كنت أسأل المراسل كم دقيقة تريد لرسالتك، فيقول مثلا دقيقتين على الأكثر فأعطيه أقل مما طلب، ما يجعل التلاعب بالتصريح صعبا وربما مستحيلا.
في الحوارات التلفزيونية بالذات احرص على أن لا تغفل أهمية لغة الجسد فلها تأثير كبير في قدرتك على إقناع المتلقي أو على الأقل أن لا ينظر بتشكك لما تقول، وعليك أن تقدر جيدا مستوى ذكاء ووعي المشاهد الذي لا يقبل منك الاستهانة بوعيه من خلال تقريرك لما تفرضه عليه كما لو أنه أوامر، وهنا عليك الالتزام بقاعدة ذهبية وهي أن الاعتراف الذكي بالخطأ أفضل بكثير من الإنكار الساذج له، وذلك حدث معي مرات كثيرة، كان المشاهد يتقبل مني تفسيرا لخطأ ظاهر من جانب الجهة السياسية التي أتحدث باسمها، فأنت بذلك تحترمه وتحترم قدرته على الحكم.
المجال الأكثر تداولا في هذا السياق هي لقاءاتي الصعبة مع الجزيرة وأولها كان في برنامج الاتجاه المعاكس.
يتبع... الجزيرة.. حكاية الحضور والصعود والهبوط.