ما زلتُ أذكر ذلك التَّصريح الَّلافت لشمعون بيريس والَّذي أدلى به للإذاعة الإسرائيليَّة عام 1988 وقد كان وقتها وزيراً للخارجية في حكومة الرأسين الإسرائيليَّة – حكومة الوحدة الوطنيَّة بالتَّناوب على رئاسة الوزراء بين حزبي العمل والليكود – وذلك في معرضِ تعليقه على قبول إيران بقرار مجلس الأمن القاضي بوقف إطلاق النَّار في الحرب العراقية الإيرانيَّة التي دامت ثماني سنوات. فقد قال في تعليقه على ذلك النَّبأ حينها مُستعيراً تعبيراً يرتبط بالوجدان والأدبيات الدِّينيَّة والموثيولوجيَّة:
"الآن انتهت السَّنوات الثَّماني السِّمان بالنسبة لإسرائيل وبدأت السَّنوات العجاف!!".
ولا زلتُ كذلك أذكر ذلك التَّصريح التِّلقائي للرئيس جورج بوش في تعليقه على الأنباء الأولى المتعلقة باجتياح الجيش العراقي للكويت في آب عام 1990، حيثُ علَّق على ذلك بالقول: "إنَّنا في الغرب لسنا مستعدِّين لتغيير نمط حياتنا نزولاً عند رغبات صدَّام حسين". في إشارةٍ إلى إمكانية أن يُسَيْطِرَ العراق على قرابة 25% من احتياطيَّات النفط في العالم؛ من خلال ضم الكويت.
كما لا زلتُ أذكر تعليق إسحق شامير على ذلك الاجتياح وعلى تنامي القوَّة العراقية وتمدُّدها للسيطرة على مصادر جديدة للطاقة، عندما قال: "أنا لا أستطيع أنْ أتخيَّل، كيف ستعيش إسرائيل مع القوَّة العراقيَّة، في مناخ بروز العراق كقوَّة وازنة استراتيجيَّاً في الشَّرق الأوسط!".
كما لا ينبغي أنْ يغيب عن البال ذلك التصريح الَّذي أطلقه – إيهود باراك – إبَّان التسعينيَّات من القرن الماضي في وقت تولِّيه لرئاسة أركان الجيش الإسرائيلي، حيثُ قال لدى تولِّيه لذلك المنصب: "إنَّ الخطر الدَّاهم يأتي على إسرائيل من العراق، ولكنَّ الخطر الاستراتيجي يبقى ويأتي على الدَّوام من سوريا، لذا فإنَّهُ لا يكفي قصف العراق من الجو، بل ينبغي تدمير القوَّة العراقية تماماً، حتَّى لو تطلَّب الأمر احتلال العراق، ويجب استئصال العقل العراقي الوثَّاب، ومن ثمَّ يجب أنْ يأتي الدَّور على سوريا!!".
ولا زلتُ أستذكر تلك القائمة الطَّويلة العريضة الَّتي ضمَّنها كلٌّ من "بيار سالينجر، وإيريك لورو" في ملاحق كتابهما في جزئه الأوَّل بعنوان "درع الصَّحراء" والَّذي صدر في نهاية صيف عام 1990 وذلك أثناء، وفي ذروة حبكة أزمة الاجتياح العراقي للكويت، والَّتي تتضمَّن وتستعرض أسماء عشرات بل مئات الشَّركات الأمريكيَّة والغربيَّة عموماً، الَّتي كانت تزوِّد العراق بمختلف متطلَّبات وأنواع التكنولوجيا العسكريَّة الدَّقيقة أثناء الحرب مع إيران، ومن ثمَّ لا يغيب عن بالي ما ورد في ذات الكتاب في جزئه الثَّاني بعنوان "عاصفة الصَّحراء" والَّذي صدر بعد انتهاء الحرب على العراق، وما تضمَّنه من شرحٍ تفصيلي للكيفيَّة والآليَّات الَّتي أدرات بها الدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة تلك الأزمة، على المستوى السِّياسي والعسكري والاستراتيجي عموماً. كما لا يغيبُ عن البال ما ورد في كتاب "القادة" لـ بوب وود وورد، أحد أبرز موظَّفي ومستَخدمي البنتاغون إبَّان سنوات الثَّمانينيَّات من القرن الماضي، والصَّادر في نهاية عام 1991 والَّذي أسهب في شرح التَّفاصيل المتعلِّقة بإدارة واستثمار أزمة اجتياح العراق للكويت وعلاقة ذلك بأساسيَّات وقواعد سلوك القادة الأمريكيين، وكذلك بقواعد الفكر الاستراتيجي الأمريكي، وكيف تمَّ استثمار ذلك تكتيكيَّاً واستراتيجيَّاً.
كما لا يغيبُ عن البال، تلك الأمور المتصلة بفضيحة -إيران كونترا- في عهد ولاية الرئيس رونالد ريغان، والَّتي تمَّ من خلالها الكشف عن إمداد إيران ببعض التجهيزات والمعدَّات العسكرية التي كانت تحتاجها في حربها مع العراق، لقاء الحصول على الأموال الإيرانية لتمويل الحرب في نيكاراغوا.
إنَّ تلك التصريحات التي صدرت في حينه، والَّتي أكَّدت الوقائع والمجريات جدِّيتها كما أكَّدت على سياقها المنهجي، وكذلك كما العديد والكثير من الوثائق الَّتي يصعب تناولها تفصيلاً في هذه العجالة، إضافةً إلى ما كان قدَّمه -هينري كيسنجر– من رؤيةٍ أسماها في حينه بسياسة "الاحتواء المزدوَج" للقوى التي تمتلك –طبيعيَّاً- عوامل ومقوِّمات القوَّة في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً كل من العراق وإيران، إضافةً إلى مصر، وضرورة فك عرى التحالف والتكامل بين سوريا ومصر بصورةٍ دائمة؛ تكشِفُ لنا جذور ما يحصل ويجري الآن في المنطقة، وتكشِفُ لنا كذلك الأهداف الجوهريَّة لما يحصل ويجري من حروبٍ واحتراب وأزماتٍ متصلة ومعقَّدة ومركَّبة في بيئة الاشتباك على كل المستويات سياسيَّاً وعسكريَّاً ومذهبيَّاً. إنَّها باختصار سنواتنا العجاف، وسنوات إسرائيل السِّمان.