السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الحادية عشرة)/ بقلم: نبيل عمرو

​الجزيرة

2022-06-26 10:27:03 AM
رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الحادية عشرة)/ بقلم: نبيل عمرو
نبيل عمرو

كنا في زيارة رسمية لدولة قطر، ياسر عرفات ومحمود عباس وأنا، بعد لقاء ودي مع الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر آنذاك، التقيت في الفندق الذي كنا فيه، بالمذيع الشهير سامي حداد صاحب الشعر القطني ناصع البياض الذي برع في إحراج ضيوفه، كنا نعرف بعضنا قبل عهدي بالسلطة وعهده بالجزيرة.

طلب مني تأمين لقاء له مع ياسر عرفات، كانت ماتزال الجزيرة في بداية انطلاقتها، ظننت أن الرجل يعمل في تلفزيون قطر أو أي تلفزيون آخر. إلا أنه أعلمني أن اللقاء سيكون لمصلحة القناة الجديدة المقربة من الأمير وأهل الحكم. أبلغني بهذه المعلومة من قبيل تقديم إغراء لي كي أعمل بهمة وحماس لإقناع عرفات بالظهور على شاشتها، وبالفعل ما إن عرف أن القناة مقربة من الأمير حتى قبل.

أبلغت سامي بقبول عرفات، اقتادني إلى غرفة كان قد حولها إلى استوديو، وهناك حدث الانفجار.

طريقة سامي في رفع الكلفة مع عرفات، ومفاجأة القائد الفلسطيني بسؤال عن الفساد في عهده، أخرجه عن طوره وهدوئه ومرونته في التعامل مع الإعلام، أزاح الميكروفون بحركة عصبية، وقال: يا بخت إسرائيل فيك! وغادر.

ومن أجل أن يضرب سامي حداد أكثر من عصفور بحجر واحد، وضع صورة المشهد على الشاشة، ورأى الناس عرفات وهو في حالة هياج عصبي لم يسبق أن رأوه فيها من قبل.

كانت الصورة التي لم تستغرق دقيقة واحدة بمثابة أهم دعاية مجانية حصلت عليها الجزيرة، وظل مشهد عرفات العاصف متكرراً على شاشتها لفترة طويلة.

***

في احتفال الجزيرة بمرور عشر سنوات على انطلاقتها عرضت لقطات بعنوان أول رسالة وأول برنامج وأول نشرة أخبار.

وظهرتُ في أول رسالة نقلها وليد العمري من فلسطين، كانت لقاء معي إذ كنت مرشحاً لانتخابات المجلس التشريعي الأول عن محافظة الخليل، أما وليد العمري المراسل المخضرم حتى الآن مع الجزيرة والذي يستحق أن يكون كبيراً للمراسلين فكان الشعر الأسود يغطي رأسه.

-اللقاء الصعب –

فيصل القاسم، مقدم البرنامج الإشكالي "الاتجاه المعاكس" لمع نجمه في بداية صعود الجزيرة وانتشارها الواسع، كما لو أنه فاتح لنمط جديد في مجال الإعلام والتلفزيون بالذات.

اتصلت بي الجزيرة لأكون ضيفاً على برنامجه المثير، وافقت حتى رغم علمي بأن الضيف المقابل سيكون القائد الحمساوي محمد نزال.

إن إغراء الظهور في برنامج ربما يكون الأول في العالم العربي يجعلك لا تدقق في غير الظفر بهذه الفرصة.

لم أكن أعرف عن ماذا سيجري الحوار، بعد يوم من موافقتي على الظهور وانغماسي في الترتيبات المتعلقة بالسفر ندمت على الموافقة وقررت الاعتذار، تلقيت جراء ذلك سيلاً من المكالمات الهاتفية من رام الله والدوحة هيأت لي أن الجزيرة تواجه إشكالا جراء اعتذاري إذ لا وقت لديهم كي يؤمنوا ضيفاً بديلاً.

لماذا قررت الاعتذار؟ حين وافقت لم يكن تلفزيون فلسطين الرسمي، قد أذاع تقريراً قدمته هيئة الرقابة للرئيس ياسر عرفات فيه معلومة هزت أركان السلطة، وأربكت الشعب الفلسطيني، وأشعلت ضوءا أحمر في مراكز صنع القرار في العالم، خصوصاً أولئك الذين خصصوا المليارات لدعم السلطة الوطنية وتمويل مشروع "السلام التاريخي" بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

تحدث التقرير المثبت بالوقائع والأرقام، عن تبديد مبلغ ثلاثمائة مليون دولار أي ما يوازي نسبة مئوية ذات وزن من مجمل ما يصل للسلطة من إسهامات مالية تقدمها الدول المانحة، إذا سيتركز اللقاء مع القاسم ونزال حول هذه الفضيحة. التي لن تفوتها الجزيرة التي بنت شخصيتها الجريئة والمؤثرة على اصطياد وقائع الفساد الفلسطيني وكأنه الفساد الوحيد الذي لا فساد غيره في أي زمان ومكان.

استدعاني ياسر عرفات بعد أن ثارت ثائرته بفعل ما أذاعه تلفزيون فلسطين الذي يقع مقره الرئيسي داخل مكتبه المعروف باسم "المنتدى"، لم يستدعيني للمحاسبة على النشر فلم أكن آنذاك مسؤولاً بأي شكل عما يذاع ولا يذاع من تلفزيون فلسطين، بل لأن الذي أذاع التقرير وأجرى نقاشاً مفتوحاً حوله هو صديقي مروان كنفاني الذي كان يقدم برنامجاً أسبوعياً يستغرق ثلاث ساعات حول شؤون السلطة من كل النواحي. قال لي: عرفت أنك ستغادر غداً إلى الدوحة، عشان تشارك في البرنامج اللي بتقدمه "زفت الطين" الجزيرة ، بعينك الله يخويا تنفي كل اللي تقال في تقرير الرقابة، إحنا يخويا مش ناقصين.

أبلغته بأنني قررت الاعتذار عن الظهور في البرنامج بسبب هذه الفضيحة المدوية، خصوصاً أظن الذي سيحاورني مذيع مولع بالإثارة، وإلى جواره محاور هبطت عليه الفضيحة كهدية من السماء.

قاطعني وقال: لا يخويا الله يفتح عليك. كويس اللي اختاروك أنت مش واحد تاني، ماتعتذرش بعينك الله، هي فرصة تنفي كل اللي اتقال.

 أبلغت الجزيرة بأني سأصل غداً على الطائرة القادمة من عمان، وهذا ما حدث فعلاً، كان معد البرنامج في انتظاري في بهو الفندق الذي سأقيم فيه، كان خائفاً من ألا أشارك في البرنامج إلا إذا ألغيت الأسئلة المتعلقة بالفضيحة المالية.

وتمهيداً لما سيحدث مساء غد على الهواء مباشرة قال لي: سيحاول فيصل تجنب موضوع الفضيحة المالية، ولكن لا ضمانة لديه من أن الذي سيثير الفضيحة هو خصمك في الحوار محمد نزال، أنصحك بأن تضبط أعصابك وأن ترد على كل الأسئلة بهدوء ولا تجعل المحاورين يستفزونك فتخسر القضية. جاملته بشكر جزيل على النصائح، وفوجئ حين قلت له، ولم ينتظر فيصل القاسم محمد نزال حتى يثير المسألة، ليثيرها هو ولدي ما أجيب به.

صعدت إلى غرفتي، لم أستطع النوم، ماذا سأقول حيال فضيحة كل عناصرها لا تحتمل التشكيك أو التكذيب، فالتقرير أعدته جهة رسمية فلسطينية، ونشره التلفزيون الفلسطيني الرسمي، والمذيع هو أحد أقرب المقربين لعرفات، أما رئيس هيئة الرقابة الذي فجر القنبلة هو ابن عمه واسمه جرار القدوة.

لم أنم ليلتها، لقد تضافر علي كل ما يؤدي إلى طرد النوم من عيني، تعب الرحلة من غزة إلى رام الله ثم أريحا والجسر ثم الجانب الإسرائيلي فالجانب الأردني ثم مطار عمان فالوصول بعد منتصف الليل إلى الدوحة. تعب جسدي وإرهاق ذهني منذ قررت أخيراً المشاركة في الاتجاه المعاكس وأنا أفكر، كيف أعالج الفضيحة، سألت نفسي، أية حماقة ارتكبت حين قبلت بأداء مهمة الدفاع عما لا يدافع عنه!

قدرت أن الساعات التي تفصلني عن البرنامج الذي سيذاع على الهواء مباشرة قد تريحني أو قد أحظى فيها بسويعات من النوم.

ما أسهل الأفكار التي راودتني عند أول ظهور تلفزيوني لي في النادي الدولي، في تلك الواقعة لا فضائح ولا اتهامات بفساد بل مجرد رأي عن حدث جاء في سياق حرب كبرى، أما ما أنا بصدده في الدوحة فهو من أجل الدفاع عن قضية مضمونة الخسارة، ثم إن الفلسطينيين والعرب جميعاً سيشكلون هيئة محكمة يصل عدد قضاتها ومحلفيها إلى ملايين.

تواطأت مع نفسي وقررت تجاهل الأمر، واعتماد القاعدة التي اعتمدتها في أول لقاء لي مع أهم برنامج تلفزيوني مصري “لكل حادث حديث".

التقيت القاسم قبل الدخول إلى الأستوديو، طلبت منه أن تكون الفضيحة المالية جزءا من الحوار وليس أساسه ومركزه والمادة الوحيدة فيه، لم تطمئني ابتسامته المتكلفة ولا قوله "بسيطة بنلاقي حل".

جلست في المقعد المخصص لي، جلس أمامي محمد نزال وعلى رأس الطاولة جلس القاسم، نحن الآن على الهواء مباشرة. كنت طلبت من القاسم أن يؤجل طرح السؤال عن الفضيحة، فكان لي ما أردت. وكنت قد طلبت أن يبدأ نزال المداخلة قبلي، وحدث ذلك بالفعل.

سؤال القاسم كان حول تقويم حركة حماس لأداء السلطة المستجدة. كان محمد نزال قد وضع على الطاولة رزمة أوراق راح يقرأ منها. لقد منحني ميزة لم أكن لأتوقعها، ذلك أن كل ما قرأ من ورق كان منسوبا للصحافة الإسرائيلية كدليل ساقه على أن حتى الشركاء في المغامرة السياسية ينتقدون السلطة ويتوقعون لها الفشل.

حمدت الله على أني حتى الآن لست مضطراً للغوص في أوحال الفضيحة.

كانت الفقرة التي بدأها نزال والتي استغرقت زهاء خمس دقائق في مصلحتي بنسبة مائة بالمائة، خلاصة ما قلت لا مصداقية للمصادر الإسرائيلية في هذا الأمر، كنت أتوقع تقويماً خاصاً من جانب السيد محمد نزال وليس تلاوة تقارير ومقالات صحيفة إسرائيلية. مع ذلك وكي لا يفشل مشروع السلطة الوطنية، أتمنى على حركة حماس أن تساهم في دعمه وحمايته وأن تصوب الأداء من داخل مؤسسات السلطة وليس من خارجها. ولم يخطر ببالي أن شراسة الهجوم على مبدأ قيام السلطة سيزول حين قررت حماس دخولها ومن أوسع الأبواب "الانتخابات" في وقت لاحق.

أغلق القاسم الحوار حول هذه النقطة، وانتقل إلى موضوع آخر. كان عرفات قد شاهد الحلقة من أولها إلى آخرها وحين عدت إلى غزة والتقيته، لم يشكرني على الأداء بل لامني لأني لم أقل بأن التقرير كان كاذباً.

إن هدوء الأعصاب هو المقوم الأساسي للصمود أمام الخصوم، كما أن الاعتراف بما لا يمكن نفيه هو شرط لمنح منطقك صدقية ولو نسبية، إلا أن أمراً غاب عني وعانيت من غيابه كثيراً، وهو قلة المؤيدين المتصلين من خارج البرنامج، أمام كثرة المتصلين من الطرف المقابل، وجدت نفسي محشوراً في زاوية ضيقة أضلاعها حادة، المذيع الذي يعشق الإثارة، والمحاور الحمساوي الذي ينتمي إلى جهة تفرغت لاصطياد أخطاء السلطة وتقديمها للجمهور كخطايا، ويضاف إلى المذيع والمحاور سيل الاتصالات التي بدت لي معدة سلفا ًوكلها تدين موقفي وتدعم موقف خصمي. ظننت وربما أكون على حق أن حماس والإخوان المسلمين من جميع أرجاء العالم يتعاملون مع البرامج الحوارية كمنبر هام يجدر بهم اقتحامه بالاتصالات الهاتفية، وكانت الجزيرة تعرف لمن تمنح الفرصة وكيف.. ومتى! 

يتبع.... الجزيرة .. حكاية الحضور والصعود والهبوط "2"