التنمية المستدامة هي التنمية التي تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والبيئية إلى جانب الأبعاد الاقتصادية في حُسن استغلال الموارد المتاحة لتلبية حاجيات الأفراد مع الاحتفاظ بحق الأجيال القادمة، وقد أطلقت الأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة 2030 (SDG's) في العام 2015، وفي العام 2016 أدرجت أهداف التنمية المستدامة الـ 17 في خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وتترابط هذه الأهداف فيما بينها، وتتضمن في مجموعها 169 غاية. وتغطي أهداف التنمية المستدامة مجموعة واسعة من قضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية (الفقر – الجوع – الصحة – التعليم - تغير المناخ - المساواة بين الجنسين – المياه - الصرف الصحي – الطاقة – البيئة - العدالة الاجتماعية)، حيث حملت الخطة الأممية شعار (لا أحد خلف الركب).
وتناغما مع ذلك أطلقت الحكومة الفلسطينية السابعة عشر أَجِنْدَةُ السياسات الوطنية 2017-2022م، والتي تضمنت مجموعة محاور وأولويات وطنية وسياسات عامة، تتكامل في مجموعاها للمساهمة تحقيق أهداف التنمية المستدامة، كما أطلقت الحكومة الفلسطينية الحالية خطة التنمية الوطنية 2021-2023، والتي تضمن محورا كاملا تحت اسم "التنمية المستدامة"، يشمل غالبيـة أجنـدة الإصلاح الـي تعتمدها دولـة فلسـطين، منها خمـس أولويـات وطنيـة وإحـدى وعشريـن سياسـة وطنيـة عامـة.
ولا يمكن تحقيق ديناميات التنمية المستدامة دون تفعيل منظومة "الْحَوْكَمَة"، والتي تعني مجموعة القواعد والقوانين والأسس التي تضبط عمل المؤسسات، وتحقق الرقابة الفعالة عليها، وتنظم العلاقة بينها وبين أصحاب المصالح المختلفة، وتسعى الى تحقيق الشفافية والعدالة ومكافحة الفساد.
وبعبارة أخرى، هي منظومة متكاملة يتـم بموجبـها إخضـاع نشـاط المؤسسـات إلـى مجموعـة مـن القوانيـن والنظـم والسياسات والقـرارات والاجراءات التـي تهـدف إلــى تحقيــق الجــودة والتميــز فــي الأداء، عــن طريــق اختيــار الأساليب المناســبة والفعالــة لتحقيــق خطــط وأهــداف المؤسســة، وضبــط العلاقات بيــن الأطراف الأساسية التــي تؤثــر فــي الأداء، ضمن بيئة عمل تمتاز بالشفافية، والنزاهة، والمساءلة، والتشاركية.
وبالتالي فان "الْحَوْكَمَة"، تقوم على جملة مبادئ ومعايير ومؤشرات، من أهمها: الالتزام بالتشريعات والقوانين، الشفافية، النزاهة، المشاركة، المساءلة، تكافؤ الفرص، منع تضارب المصالح، كفاءة وفاعلية الأداء، جودة المخرجات، العدالة.
وفي ضوء ما تقدم فان العنصر الحاكم في تطبيق التنمية المستدامة في فلسطين، هو الالتزام بـ "الْحَوْكَمَة"، ولا يعني الأمر الالتزام بها في إطارها النظري، وانما من خلال تطبيق مبادئها كافّة، فـ "الْحَوْكَمَة" لا تحتمل الانتقائية في تطبيق مبادئها، فلا تستقيم الشفافية مع عدم تكافؤ الفرص، ولا قيمة للمشاركة دون المساءلة.
وتبعا لغياب السلطة التشريعية في فلسطين منذ حوالي 15 عام، ولأمدٍ غير معلوم الأجل، فانه توجد ضرورة لتعزيز "الْحَوْكَمَة" والتي تعتبر محرك التنمية المستدامة من خلال تفعيل مبدأ المساءلة، والتي تَعنِي التزام القائمين على السلطات بأنواعها المختلفة، بالخضوع للمساءلة وتحمّل المسؤولية عن أفعالهم، ومن هنا كانت ضرورة ملحّة في المجتمع الفلسطيني؛ لتفعيل مفهوم "المساءلة المجتمعية"، والتي تشير إلى مجموعة واسعة من الأعمال والآليات التي يستخدمها المواطنون ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام وغيرها من الأطراف الفاعلة غير الحكومية في مطالبة من يقومون على إدارة الشأن العام والمال العام؛ لتوضيح قرارات تمّ اتخاذها، والاجابة على أسئلة متعلقة بالمشاريع والخدمات أو الفرص التي تم توزيعها أو إدارتها.
والمساءلة المجتمعية تُعَدّ الإطار الحاكم للعقد الاجتماعي ما بين الحكومة والمواطنين، وتوفر مساحة تسمح للمجتمع المدني (مواطنين، مؤسسات، إعلام) بالمشاركة في عملية التنمية المستدامة، وتعزز دورهم في إدارة الشأن العام. حيث تساهم منظومة المساءلة المجتمعية على انفاذ "الْحَوْكَمَة"، وتحسين نُظم إدارة الحكم من خلال إخضاع المسؤولين للمساءلة كعنصر أساس، وكذلك تحسين كفاءة الخدمات العامة وجودتها، وتحقيق المساواة والعدالة فيها، ومتابعة الانحرافات، والحدّ من فرص الفساد، وضمان مشاركة القاعدة العريضة من المواطنين في وضع السياسات ومتابعتها، وبالتالي إلغاء حالات الإقصاء والتهميش القائمة على النوع الاجتماعي بمفهومه الشامل، وبما يضمنن مشاركة الفئات المهمشة في آليات صنع القرار والتصرف بالمال العام، ان كان على مستوى الدولة أو الهيئات المحلية، او حتى على صعيد المؤسسات المجتمعية كافّة.
وختاما، لا يمكن لفلسطين ان تنتقل الى التنمية المستدامة دون انفاذ "الْحَوْكَمَة"، فالدول لا تُبنى بالشعارات فقط، أو الخطط المنمقة التي يتم اعدادها ضمن "ظروف معيارية مخبرية"، وتزيّن بالمفردات الرنانة، لذا توجد ضرورة وطنية، وحاجة إدارية لتفعيل منظومة "الْحَوْكَمَة" بكافة مبادئها من قبل الدولة، والسلطات المنبثقة عنها من وزارات وهيئات ومؤسسات عامة، إضافة الى قطاع الهيئات المحلية كونها تمثل سلطات الحكم المحلي في المدن والقرى الفلسطينية، ولزاما على المواطنين والإعلام والمؤسسات الأهلية المختلفة تطبيق المساءلة المجتمعية كونها رافعة لدعم وتعزيز "الْحَوْكَمَة"، وبالتالي المساهمة الإيجابية في التنمية المستدامة.