الحدث الثقافي
لا أظنّ أن الكتابة للأطفال عمل سهل، بل إنها أصعب مما نتخيل جميعاً، تحتاج إلى الكثير من المهارات التي لا تتأتى لغير المتمرّس، ولذلك فإن الكتابة للأطفال تغدو أكثر صعوبة لمن لا يدرك أهميتها، إذ توقعه بمنزلقات فنية وفكرية خطيرة، وكلما كانت الفئة العمرية المخاطبة أصغر كانت الصعوبة أشدّ وأقوى؛ لأن ذلك يتطلب القدرة على مخاطبة الشخص على قدر عقله ليكون أكثر تأثيرا فيه.
هذا بالمجمل ما يخرج منه القارئ بعد أن يقرأ قصة "رحلات أبي الحروف في الأقطار العربية" للكاتبة فاطمة كيوان*، فالقصة رجعٌ باهت لبعض رحلات السندباد، مستخدما "بساط الريح" ليجوب ما أطلقت عليه الكاتبة "الأقطار العربية"، فيخرج من الجليل ليجوب لبنان، وسوريا، والأردن، والعراق ومـصر، ليعود ثانية إلى الجليل، ليزور القدس، الخليل، أريحا، رام الله، الناصرة، ليستريح في الجليل. هذه الرحلة الدائرية اللولبية التي قام بها أبو الحروف، ليتعرف وليعرّف القارئ المفترض على مجموعة من أدباء العرب وشعرائهم، فكان هناك تسعة شعراء عرب وكاتبة واحدة عربية، في حين ذكر من الشعراء الفلسطينيين سبعة شعراء ومرّ ذكر الفنان محمد عبد الوهاب على هامش أحد المشاهد. ويقتبس أبو الحروف خلال هذه الجولة المكوكية بعض الأبيات لهؤلاء الشعراء.
وتعيد هذه القصة إلى الأذهان أغنية فريد الأطرش "بساط الريح"، تلك الأغنية التي جاءت في فيلم "آخر كذبة" من إنتاج عام 1950، مع مراعاة اختلاف كلا العملين في الأسلوب والهدف ليلتقيا عند بعض الخطوط، إلا أن التميّز واضح لصالح الأغنية على المستويين الفني والفكري، إذ تعلو في كلمات الأغنية الروح القومية المشبعة بالعزة والكرامة والمجد العربي، في حين افتقرت لمثل هذا قصة "أبي الحروف". ولعل الدراسة المقارنة بين العملين ستكشف اختلافات كثيرة ومتباينة لن تكون لصالح القصة في الأغلب.
هذا هو الكتاب (القصة) الصادر عن دار الهدى بثلاثٍ وعشـرين صفحة، بتدقيق لينا عثامنة، ومزيّن برسومات منار الهرم التي تدحرج اسمها ليكون في نهاية القصة. تعيد الكاتبة المتلقي، الطفل، إلى نوع من الخيال الكلاسيكي غير المعروف لدى الجيل الجديد من الأطفال، فيُحدث لديهم شيئا من الاغتراب عما تتعامل به الأجيال هذه الأيام؛ حيث التكنولوجيا، فتحت للأطفال آفاقا أبعد من "بساط الريح" والسندباد، فهم يفكرون بالفضاء والخيال العلمي والألعاب الإلكترونية المعقدة في التفكير، فهم ليسوا بحاجة إلى بعث التراث المريض من مرقده. لم تعد حكايات الجن والغولة وأشباهها تثير اهتمامهم. إن هذا النوع من "الفنتازيا" عفا عليه الزمن، وجاء زمن آخر مختلف له متطلباته المعرفية، ليكون الأدب منمّياً هذه التوجهات وليس العكس، ليحدث التناغم بين أفكار الكاتب واحتياجات المتلقي الطفل العقلية والنفسية، لتصنع على عين بصيرة، فالطفل في الألفية الثالثة ليس هو ابن الخمسينيات، والطفل العربي ليس هو الطفل الفلسطيني الآن وبعد غد، فثمة فوارق حادة بين كل هذه العوالم، فالطفل الفلسطيني المعتقل والجريح والشهيد وابن المعتقل والجريح والشهيد لا يوضع في سياق مطلق من الفضاء غير المرتبط بأبجديات الواقع المعيش، لقد دخل الطفل المتلقي في قصة أبي الحروف في عوالم من التجريد الذهنية تفصله عن واقعه، وتهوّم به بعيدا عما يريده ويفكر به ويشاهده صباح مساء من حوله أو على شاشة التلفاز أو شاشة هاتفه الذكي.
في هذا الكتاب أيضاً ثمّة إشكاليات منهجية جمّة تجعله كتاباً لا يؤدي رسالته التي يتوخاها مؤلفو أدب الأطفال؛ نظرا لخطورتها في الوعي الفكري المصاحب للكتاب وأفكاره، وأول تلك الإشكاليات الفكرة التي يقوم عليها الكتاب، إذ يسوق الكتاب، إن بشكل مقصود أم غير مقصود، إلى الوحدات العربية المنفصلة التي وردت في الكتاب، بحيث لا يصل إلى المتلقي، الطفل، أي وحدة تجمع هذه الأقطار، إضافة إلى أن التأسيس العنواني يفرض هذا التجزيء غير المترابط بين تلك الوحدات، لأنها تنبئ منذ البداية إلى أن الرحلات إلى "الأقطار العربية". إذ ترسخ هذه القصة النظرة الاستعمارية في رؤية بلاد العرب أقطاراً متناثرة، فلم يرد في الكتاب أي جملة تشير إلى أن تلك البلاد واحدة، أو أن لها اعتبارا عاطفيا أو فكرياً يوحدها. ولا يكفي اعتبار اللغة عامل وحدة بين تلك الأقطار بالنسبة للمتلقي الطفل.
خلا الكتاب أيضا من تحديد الفئة العمرية المستهدفة من الكتاب، ومن الصعب ربما أن نقيس نحن الكتاب والقراء الكبار الفئة المناسبة، لأن قياس ما في الكتاب إلى وعينا ومستوانا في التفكير سيكون له نتائج مغلوطة بالتأكيد.
ما الذي يلزم هنا؟ يلزم بالتأكيد عرض الكتاب على مختص بأدب الأطفال، لتحليل مستوى المعرفة واللغة والوعي الفكري، فثمة "خصائص نمائية" تحدث عنها التربويون وعلماء النفس ونقاد أدب الطفل يجب أن يخضع هذا الأدب لها، ليمكن تحديد الفئة المستهدفة. على الرغم من أن الكاتب ذو الخبرة يستطيع ذلك بحكم معايشته وخبرته، وثمة الكثير من تجارب أدباء الطفل تحدثوا عن صناعة هذه الخبرة بطرق تجريبية، اختبروها بأنفسهم، إذ يجب ألا تشكل المادة المعرفية واللغة عائقا أمام الفهم، وأيضا ألا تكون عادية وسطحية، بحيث لا تستثير فضول المتلقي الطفل وتدفعه إلى متابعة القراءة أو الاستماع بشغف. طرفا المعادلة في الصعوبة أو السطحية يودي بالكتاب.
وبناء على ما جاء من تحديد الفئة خارج بنية القصة المطبوعة، فقد حددت الكاتبة فيما نشرته على صفحتها في الفيسبوك أن هذه القصة "للفتيان"، وإن ناسبت قليلاً الفتيان في مادتها المعرفية، فإنها لا تناسب هذه الفئة من حيث المخرج النهائي للقصة المطبوعة، فهذه الفئة تحتاج ما هو أعمق في المعرفة بكتاب يحترم أعمارهم، ويحرك عقولهم، ويتناسب في عدد صفحاته وطبيعة رسوماته ميولهم، وليس كتيباً بحجم قصة قصيرة تقرأ بربع ساعة على أكثر تقدير. فالكتاب الموجه لهذه الفئة له مميزات خاصة أهمها أن يكون الكاتب قادرا على إشباع الفضول العلمي والمعرفي وحتى الفلسفي إذ تتخلق في هذه المرحلة الأسئلة المعقدة قبل أن يتجه الطفل إلى التصالح معها والتخلي عن طرحها فيما بعد.
لا تشكل المادة المعرفية اللفظية المكتوبة كل الكتاب، فالصور والرسومات المصاحبة جزء أصيل بنيوي من الكتاب وأفكاره والتعبير عنها، لذلك يعي الناشرون والكتاب المتمرسون أن أي كتاب لأدب الأطفال، الرسام هو مشارك بالدرجة نفسها بالكتاب، لأنه شريك في صنع الفكرة بتجسيدها بالصور، إنه ينقلها من تجريدها الذهني المطلق كونها أفكارا تولد وتعيش وتتفاعل في الذهن والوجدان إلى عالم أكثر حسية، فتكون للصورة أو الرسم المعيّن أهمية موازية؛ لأنها صورة أخرى للفكرة، ولذلك اعتادت كتب أدب الأطفال أن تعطي الرسام حقه ليكون اسمه مقرونا باسم الكاتب سواء بسواء على الغلاف، ويتقاسم مع الكاتب الجائزة في الجوائز المخصصة لأدب الأطفال، لأنهما بالفعل شريكان، يبدو أن شيئا من عدم التقدير لدور الرسامة حدث في هذا الكتاب.
عدا هذا التجاوز عن حق الرسامة لتكون مع الكاتبة على قدم المساواة، ثمة خلل كبير في الرسومات المصاحبة، فهي لا تدل على الشعراء دائما، كما في الصور التي تدل على نزار قباني ومصطفى وهبي التل وبدر شاكر السياب على سبيل المثال، هذه العملية تحدث عند المتلقي تضليلا معرفيا، بل إنه نوع من "الخطأ المعرفي"، فالصورة تدل على الشخص حتماً، لأنها تجسد شخصيات حقيقية، وليست كرسومات الشخصيات المتخيلة، فإذا لم تكن كذلك فإنها صور خاطئة، لتكون النتيجة في نهاية المطاف كتاباً يقدم محتوى خاطئاً بالتأكيد.
ثمة قصور معرفي أيضا في الحديث عن الشعراء أو الكتاب، فلم يحفل الكتاب إلا بكاتبة واحدة هي السورية كوليت خوري، وذُكرت أم كلثوم كذلك عرضاً، فكأنه لا يوجد أديبات سوى هذه الكاتبة، على الرغم من أنها أديبة غير مشهورة في أوساط المثقفين بشكل عام، فثمة من هنّ أكثر وضوحا وبروزا منها، في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر والعراق (النطاق الجغرافي للرحلات). هذا الفعل يمكن أن يشكل شللا معرفيا يشل الكتاب بأجمعه، لتحكمه النظرة الدونية للمرأة الكاتبة بتجاهلها هذا التجاهل المريب، وإما أن الكتاب لم تكن لتحكمه عملية التخطيط الواعية، ليتم تجاوز هذا الخلل. وربما كان الكتاب محكوما بالنظرة "الذكورية" في النظر إلى الكاتبات، وهذه النظرة- بالمجمل- مرض مصاب به كل من يعمل بحقل الأدب من الجنسين، إذ لا يطفو على السطح إلا الشعراء والكتاب، أم الشاعرات والكاتبات فحظهنّ قليل، وكان الأجدر بالأستاذة فاطمة كيوان- كونها كاتبة بالمقام الأول- أن تلتفت لهنّ التفاتة منصفة، وتكون أكثر حرصا على تمثيل الكاتبات والشاعرات، فلسطينيا وعربيا كذلك.
ويطال الناحية المعرفية أيضا ما صاحب اللغة من تشكيل وعلامات ترقيم؛ فقد اهتمت المدققة اللغوية بتشكيل كل حرف من الحروف، سواء أيلزمه ضبط أم لا، فالألف في أل التعريف تحلت بالهمزة، ووضعت الكسرة على همزة الوصل، وجُعل التنوين على الحرف الذي يسبق ألف تنوين النصب، مع أنها جائزة، إلا أنها تربك المتلقين الأطفال الذين يدرسون في المدارس، ويواجهون تنوين النصب على الألف وليس على الحرف الذي قبل الألف، إنها طريقة تحمل الكثير من التمحل والتوجيه غير الدقيق، ولا بد من أن تكون كتب أدب الأطفال متسقة مع ما يتعلمون في مدارسهم، وإلا حدث نوع من الإرباك المعرفي الذي يشوش عقولهم، إذ لا بد من أن يعزز أدب الأطفال المحتوى التعليمي ويثريه، لا أن يكون عامل تشويش لذهن المتلقي. ولذلك يبتعد مؤلفو المقررات الدراسية المحترفون عن مواطن الخلاف والشاذ عن القاعدة لتعزيز المتفق عليه من المعرفة، لأن الهدف من المعرفة بناء العقل ومده بالمعرفة التأسيسية لتكون المراحل الجامعية هي مراحل النقد والمناقشات الفكرية المعقدة التي لا تخالف أيضا ما تعلمه الطفل في مراحله الأولى من التعليم.
هذا ينطبق أيضا على استخدام علامات الترقيم أيضا، فلا يوضع للجملة علامتي ترقيم كما في صفحة (14)، أو عدم ملاءمة استخدم علامة التعجب للجملة في الصفحة التي تليها (ص15)، على الكاتبة أن تنتبه إلى أنها تكتب لطفل محكوم بقاعدة واضحة، ولا يصح أن تخرج حالتها النفسية التعجبية على الجملة، وهي ليست من جمل التعجب القياسي، هذا أيضا نوع من الخلل المعرفي الذي يربك المتلقي، الطفل.
كذلك اعتمدت المدققة اللغوية على ما تسمعه من غناء أم كلثوم في غنائها لقصيدة "نهج البردة"، لتضبط البيت كما تغنيه السيدة أم كلثوم، وليس كما هو في أصله في قصيدته قبل الغناء، فالشاعر أحمد شوقي كان يخاطب النفس البشرية، وهو خطاب مؤنث، فقال: "صلاح أمركِ للأخلاق مرجعه"، وليس "أمركَ"، إن الحاجة التي دفعت أم كلثوم لتغيير صيغة الخطاب من مؤنث إلى مذكر لم تكن موجودة، على افتراض هذه الحاجة عند الغناء، ولعله ليس أكثر من خطأ وقعت فيه كوكب الشرق كما وقعت في غيره. مثلا، عندما غنت قصيدة أبي فراس الحمداني "أراك عصيّ الدمع" استبدلت ببلى كلمة نعم، فقالت "نعم أنا مشتاق"، والأصل- كما في الديوان وكما تُقرّه قواعد العربية وقواعد التلقي- أن تقول: "بلى أنا مشتاق"، لأنها جاءت إجابة بالإيجاب على سؤال منفي، وأم كلثوم قلبت الحال، وجعلته "غير مشتاق". لعلّ أم كلثوم أيضاً لم تكن تدري ما القاعدة النحوية.
لقد عززت القصة الإرباك المعرفي بإرباك وجداني ديني، إذ جعلت ذاك الفتى يصلي في المسجد وفي الكنيسة، في ظني أن هذه المسألة تتصل بالخصوصية الدينية، وأن لكل دين طقوسه وشعائره، واحترام الخصوصية الدينية والحث عليها لا يعني أن يؤدي "الشخص" الصلوات في المسجد والكنيسة، والتزام كل مؤمن بمكان عبادته لا يكرس الطائفية، إنما الذي يكرس تلك الطائفية المقيتة أمور أخرى، وتأديتنا لعباداتنا في أماكن عبادة واحدة أمر يربك الطفل الذي قد يصاب بالتشويش عندما يصبح في سن متقدم أكثر.
ربما الأمر الأكثر خطورة في الكتاب هو تزييف الوعي، فالسيد أبو الحروف يتنقل براحته، بين الدول العربية، وبين المدن الفلسطينية، وكأنه لا احتلال، مع تأكيد الكاتبة على "السلام" غير مرة في ثنايا القصة، وتجنبت ذكر ما له علاقة بالاحتلال، صراحة أو تورية، وما ذكرته في نهاية القصة عن أمنيتها أن يعيش الأطفال بحرية، "ويرفرف السلم على ربوع بلادنا، وتحل القضية، ويصبح أطفال بلادنا يغنون بحرية". إن أقصى ما يصل إليه المتلقي الطفل من هذه الفقرة، وهي آخر فقرة في الكتاب، أن يحصر تفكيره كيف يعيش بسلام ليغني بحرية في بلده؛ متجنبة الكاتبة ذكر فلسطين في القصة كلها، لا أدري إن كان عن قصد أو عن غير قصد، لتمسك العصا من الوسط، ولترضي الناشر أو من يدعمه من مؤسسات الاحتلال الثقافية، إذ لا تكمن مشكلة الاحتلال مع أسماء المدن، بل إن مشكلته الحقيقية الوجودية هي مع "فلسطين" كيانا وجوديا جغرافيا سياسيا ذا أبعاد ثقافية ممتدة في التاريخ، فيتجنب ذكر الاسم "فلسطين" حتى لا يساعد على تكريسها في العقول والقلوب، وهذا ما بدا واضحا في القصة.
إنها دعوة فيها الكثير من التماهي مع ما تطرحه الصهيونية، وما تروج له بين أوساط الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال في مناطق الاحتلال الأولى (1948). في هذه الفقرة انحياز كامل للخطاب الاستعماري الصهيوني للأسف، ولهذا النوع من الأدب خطورته، إذ يؤدي مع الوقت إلى غسيل الأدمغة وحرف بوصلة التفكير وتوجيه المشاعر إلى ما تريده الجهة المسيطرة المعادية للوجود الفلسطيني على أرضه التاريخية، بل إن عملية تزييف الوعي أشد خطورة في أدب الأطفال من أدب الكبار، لأنهم في مرحلة تشكل معرفي، ويتسرب إلى أذهانهم ووجدانهم ويرسخ، فيكون تأثيره أكبر وأخطر من غيره، ودوام حضور هذا الأدب في وجدان الطفل أطول عمراً من كل ما سيقرأه في شبابه وكهولته.
* كاتبة من مجد الكروم، مواليد 1964، عملت أمينة مكتبة، ولها عدة قصص للأطفال مطبوعة، وصدرت هذه القصة عن دار الهدى للطباعة والنشر كريم، كفر قرع. 2021.