الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كيف نكرم جنود الصاعقة اللذين حاربوا داخل الأراضي المحتلة في 1967؟| بقلم: خالد فهمي

2022-07-27 09:33:59 AM
كيف نكرم جنود الصاعقة اللذين حاربوا داخل الأراضي المحتلة في 1967؟| بقلم: خالد فهمي

منذ يومين نشر صحافيان إسرائيليان أخبارا عن وجود مقبرة جماعية داخل الأراضي المحتلة دُفن فيها عشرات الجنود المصريين الذين استشهدوا في عمليات عسكرية في حرب ١٩٦٧. 

الصحافي الأول هو يوسي مِلمان الذي نشر حديثا في صحيفة يديعوت أحرونوت أعقبه بعدة تغريدات بالعبرية والإنجليزية على حسابه في تويتر. في هذا الحديث وفي تلك التغريدات يقول مِلمان إن هناك مقبرة جماعية في منطقة اللطرون (غربي القدس على الطريق المؤدي ليافا) مدفون فيها رفات ما لا يقل عن عشرين جنديا مصريا كانوا يقاتلون في هذه المنطقة أثناء حرب ١٩٦٧. ويشرح قائلا إن هؤلاء الجنود كانوا ينتمون لكتيبتين من كتائب الصاعقة التي بُعث بهما بعد أن وقع الملك حسين اتفاقية دفاع مشترك مع جمال عبد الناصر في أوائل يونيو ١٩٦٧. وكان هدف هاتين الكتيبتين هو الهجوم على مطار اللد والاستيلاء عليه وعلى قواعد جوية أخري. إلا أن قتالا حاميا دار بين هذه القوات والقوات الإسرائيلية، وفي أثناء القتال اندلعت نيران حامية أدت إلى موت هؤلاء الجنود حرقا. وفي اليوم التالي جاء الجيش الإسرائيلي بجرافة وحفرت حفرة ألقت فيها بجثث الجنود وأهالت عليها التراب. وجرى التعتيم وقتها على هذه العملية، ولم توضع أي علامات على مكان المقبرة ولم تُنصب شواهد قبور عليها. كما فرض الرقيب العسكري السرية التامة على هذه الواقعة لمدة ٥٥ سنة.

أما الصحافي الثاني فهو آدم راز الذي كتب مقالا طويلا في صحيفة هآرتس أضاف فيها معلومات هامة. فيوضح أولا أن منطقة اللطرون التي تمت فيها هذه العملية كانت تقع على خط الهدنة الفاصل بين الضفة الغربية وإسرائيل، وكانت بالقرب من القرى العربية بيت نوبا ويالو وعمواس التي تم تدميرها وتهجير سكانها أثناء الحرب. ويضيف أن هذه القوات المصرية كانت تنتمي للكتيبة ٣٣ صاعقة التي كانت قد انضمت لقوات الجيش الأردني عند اندلاع الحرب. وكان قوام هذه الكتيبة حوالي مائة مقاتل. اندلع القتال يوم ٥ يونيو وحارب جنود الصاعقة المصرين ببسالة، لكن الدائرة دارت عليهم يوم ٦ عندما قرر الجيش الإسرائيلي احتلال المنطقة والهجوم عليها، وأثناء قتال ذلك اليوم أطلق الإسرائيليون قذائف مدفعية وأخرى فوسفورية أحرقت الأشجار والأعشاب الجافة في المنطقة، وسرعان ما وجد الجنود أنفسهم داخل أتون الحريق، وسقط منهم في ذاك اليوم عشرون جنديا ماتوا حرقا. القتال استمر يوم ٧ يونيو ووصل عدد الشهداء لثمانين شهيدا. في يوم ٨ وبعد توقف القتال وانسحاب باقي الكتيبة تناثرت الجثث على الطريق دون أن يكترث أحد بدفنها. وفي يوم ٩ جاءت جرافات الجيش الإسرائيلي ونزحت الجثث وألقت بها في حفرة طولها عشرين مترا. وقبل أن تهيل عليها التراب أقبل أفراد من مستوطنة نحشون القريبة من موقع المعركة وقام أحدهم بنزع ساعة من معصم أحد الشهداء وظل يحملها في معصمه إلى أن مات بعدها بسنين طويلة. وقام مستوطن آخر بأخذ مدفع كلاشينكوف والاحتفاظ به كتذكار. ولم يُبذل أي مجهود للتحقق من هوية الجنود قبل دفنهم، كما لم توضع أي علامات على مكان المقبرة، بل تحولت على مدار السنين والعقود التالية إلى كرمة لوز ثم لحقول قمح ثم لمنتجع سياحي. وطوال هذه السنين فرض الرقيب العسكري السرية التامة على هذه الواقعة. وأرفق راز حديثه بتسجيل فيديو لزئيف بلوخ، أحد القلائل من أعضاء مستوطنة نحشون الذين شهدوا الواقعة والذي ما زال على قيد الحياة. في حديثه يسرد بلوخ ذكرياته عن المعركة، ويشرح كيف افتقد الجنود المصريون لخرائط دقيقة تساعدهم في مهمتهم، ويختم حديثه بالقول إنه يجب إعادة رفات الجنود المصريين لوطنهم ليُدفنوا هناك. 

في أعقاب هذه الأخبار الصحافية اشتعلت الصحف الإسرائيلية والعربية، وطبعا مواقع التواصل الاجتماعي، بالتعليقات والتغريدات. إلا أنه باستثناء بعض التدوينات والتغريدات المصرية، أهمها من الصحافي الدؤوب أحمد رجب الذي تتبع قصة هذه الكتيبة في عدد من تغريداته على تويتر، لم نقرأ في إعلامنا تحقيقات رصينة تحاول إماطة اللثام عن حقيقة هذه القوات المصرية وسر توغلها داخل فلسطين أثناء حرب ١٩٦٧.

وقد أحسنت السلطات المصرية صنعا من حيث المبدأ حين تفاعلت مع غضب الجمهور، وأسفر اتصال تلقاه الرئيس المصري من رئيس الوزراء الإسرائيلي عن “التوافق على قيام السلطات الإسرائيلية بفتح تحقيق كامل وشفاف”، لكن من حقنا التساؤل عن ضمانات هذه الشفافية من الطرف الجاني؟ هل هي ذات (شفافية) التحقيق بمقتل شيرين أبوعقلة؟

كما أن الأمر لا يتوقف على التحقيق، بل يحب أيضا المطالبة بعودة الجثامين. على أن التكريم الحقيقي لهؤلاء الشهداء سيكون بالوقوف على تفاصيل هذه العملية التي دفع فيها هؤلاء الجنود أنفس ما يملكون، وذلك لن يتم إلا بالإفراج عن الوثائق الرسمية لحرب يونيو ١٩٦٧.

أما وقد غابت الأصوات الرسمية لم يبق لنا، كمحاولة متواضعة لتكريم ذكرى هؤلاء الجنود، إلا أن نسرد قصتهم مستعينين بالمعلومات القليلة المتاحة لنا. 

بادئ ذي بدء، يجب توضيح أن مهمة هذه القوات لم تكن تندرج تحت أي خطة عامة للهجوم على العدو الإسرائيلي. فصلاح الدين الحديدي (وهو أحد الضباط الأحرار، وكان مسؤولا عن المنطقة المركزية، أي القاهرة، أثناء حرب ٦٧، والذي ترأس المحاكمة العسكرية العليا التي عُرفت بـ”محاكمة الطيران ومسؤوليته عن النكسة”) يقول في كتابه الهام، شاهد على حرب ١٩٦٧، “إن مصر اختطت لنفسها استراتيجية دفاعية بحتة تجاه إسرائيل، ولم تفكر في يوم من الأيام أن تعد لعملية هجومية واسعة. فمنذ هدنة ١٩٤٩، لم تتلق هيئة أركان حرب القوات المسلحة تعليمات بتغيير استراتيجيتها الدفاعية، بل كان أقصى ما سُمح به خلال هذه السنوات الطويلة مجرد وضع خطوط عامة لعملية إغارة على بعض الأهداف الإسرائيلية القريبة لتدميرها ثم العودة إلى قواعدنا في النهاية. ولم يحدث أن تم تنفيذ خطط هذه الإغارات على أهداف لها قيمتها.” (ص ١٠٩-١١٠)

 

وبالتالي فتواجد قوات للصاعقة داخل إسرائيل أثناء حرب ٦٧ لم يكن يندرج تحت خطة هجومية شاملة، بل كان مثالا لتلك “الإغارات” المحدودة التي ارتأتها هيئة أركان حرب القوات المسلحة غاية قصوى لها. وقبل التطرق لتفاصيل تلك “الإغارة” قد يكون من المفيد الإشارة لعمليتين هجوميتين غير هذه العملية جرى التفكير فيهما أثناء حرب ٦٧.

أولى هاتين العمليتين هي “الخطة فجر” التي كان مُخطط لها أن تُنفذ يوم ٢٧ مايو ٦٧ وكانت ترمي إلى الهجوم على النقب الجنوبي بهدف عزله عن شمال إسرائيل. وكان من المفترض أن تشترك القوات الجوية، حسب خطة أخرى اسمها “الخطة أسد”، وأن تساعد القوات البرية في هذه الهجوم. إلا أن إسرائيل اشتمت خبرا عن هذه الخطة (غير معروف إن كان ذلك نتيجة طلعات استكشافية جوية أم نتيجة عملية تجسس من داخل قيادة القوات الجوية المصرية)، وأثناء زيارة آبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي، للبنتاجون يوم ٢٦ مايو، أبلغ الأمريكان بهذه المعلومات، والأمريكان بدورهم أبلغوا السوفييت، الذين بدورهم أبلغوا سفيرهم في القاهرة، ديمتري بوييدايف، لكي يقابل عبد الناصر على الفور ويحثه على إيقاف هذه الخطة. وصل السفير السوفييتي لمنزل عبد الناصر فجر يوم ٢٧ مايو وأبلغه رسالة موسكو، وبعد أن نفى عبد الناصر علمه بهذه الخطة استدعى عبد الحكيم عامر وأمره بوأد الخطة فجر. (سبق وأن كتبت عن هذه الخطة في مقالي “الخطة فجر الموءودة في الفجر“).

كُتب كثيرا عن هذه الخطة، وذهب بعض المحللين إلى القول إن هذا مثال صارخ من ضمن أمثلة عديدة على تدخل “القيادة السياسية” في العمليات العسكرية، وأنه لولا تدخل عبد الناصر في الخطط العسكرية لتمكنا من القيام بالضربة الأولي، ووقتها كانت الحرب ستأخذ منحي مغايرا تماما. قد يكون هناك قدر كبير من الصحة في هذا الرأي، ولكن بدراسة تفاصيل هذه الخطة (وتلك التفاصيل، بالمناسبة، حصلت إسرائيل عليها وأذاعتها بعد استيلاء جيشها على مطار العريش يوم ٦ يونيو) توصل العميد الركن حسن مصطفى في كتابه “حرب حزيران 1967: أول دراسة عسكرية من وجهة النظر العربية” والمنشور سنة ١٩٧٣، إلى أن هذه الخطة كانت ستبوء بالفشل نظرا لسوء التخطيط لها وعدم كفاية القوات المخصصة لها. ولكن الهام في أمر هذه الخطة أنها لم تكن فقط مغايرة لتوجهات عبد الناصر، كرئيس للدولة وقائدها السياسي، بل خُطط لها دون علمه أو تصديقه عليها.

أما ثاني تلك الخطط الهجومية فكانت خطة الهجوم على بئر سبع عن طريق قوة مظلات، وكان مخططا أن تنفذ كتيبة مظلات بقيادة الرائد مدحت عثمان هذه الخطة يوم ٥ يونيو. ولنترك اللواء (فيما بعد) مدحت عثمان يحكي تفاصيل الخطة وكيف أُجهضت حسب حديثه لموقع “مجموعة ٧٣ مؤرخين الرائد بتاريخ ١٣ نوفمبر ٢٠١٧:

 

“رجعت [لمدرسة] الصاعقة في أنشاص [في أوائل يونيو ١٩٦٧] فوجدت المقدم جلال هريدي قائد قوات الصاعقة قد سافر إلى الأردن لتأدية مهام هجومية ضد اسرائيل، وأما أنا فقد أسند إلي مهمة قيادة سريتين مظلات للذهاب للقفز عند بئر سبع، وكنا نتدرب يوميًا على المهام التي سوف ننفذها. وكنا مقسمين كضباط، جزء يذهب للبيات في بيته وجزء يبقى بالموقع. وفي يوم ٤ يونيو كنت ذاهبًا للبيت، قالوا لي عن حفل غنائي في مطار أنشاص وأني مدعو له، ولكني لم أكن أعني بهذه الأمور!

المهم ذهبت إلى بيت والدي في المعادي للبيات، في صباح اليوم التالي ونحن نعد للفطور في مدرسة الصاعقة سمعت صوت ارتطام، فسألت قالوا لي أنه صوت الطائرة السوخوي [السوفييتية]، خرجت لأرى السوخوي التي لم نكن نعرفها بعد!

لم تكن تلك طائرات سوخوي أبدًا، بل كانت الطائرات الإسرائيلية وكانت عليها نجمة داوود كبيرة تسد عين الشمس هي التي تهاجم مطار أنشاص وتضرب الطائرات…”

هناك ثلاث ملاحظات تتبادر للذهن عند قراءة كلام اللواء مدحت عثمان، الأولى هي أنه يبدو أن هناك ارتباطا ما بين عملية الهجوم المظلي على بئر سبع وعملية الصاعقة بقيادة جلال هريدي داخل الضفة الغربية (وهو ما سنتناوله لاحقا). فكلتا العمليتان كان مفترض أن تقوم بهما قوات الصاعقة، وكلتاهما كان توقيتهما الخامس من يونيو. أما الملاحظة الثانية فهي تساؤل حال غياب الوثائق عن الإجابة عنه: هل توجد علاقة أيضا بين عملية بئر سبع والخطة فجر علما بأن كلتيهما استهدفتا الهجوم على جنوب إسرائيل؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل كان عبد الناصر على علم بخطة الهجوم على بئر سبع، أم أنه كان جاهلا عنها كجهله بالخطة فجر؟ أما ثالث الملاحظات (وهي ثالثة الأثافي أيضا) هي أنه يبدو أن هناك قدرا من الصحة وراء ادعاء إسرائيل أنها اختارت التاسعة صباحا كتوقيت لهجومها على مطاراتنا يوم ٥ يونيو لعلمها أن الطيارين المصريين يتناولون إفطارهم في هذه الساعة. 

بعد هذه المقدمة نأتي لعملية الصاعقة في منطقة اللطرون في أقصى غرب الضفة الغربية وأمام خط الهدنة الفاصل بين الأردن وإسرائيل. فلنحاول سرد قصة هذه العملية مستعينين بالقدر اليسير من المعلومات المتاحة.

يُمكن لنا أن نبدأ القصة بزيارة الملك حسين المفاجئة للقاهرة في يوم ٣٠ مايو ١٩٦٧ واجتماعه مع جمال عبد الناصر وتوقيعه اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين. في هذه الاتفاقية تقرر تعيين الفريق عبد المنعم رياض قائداً للجبهة الشرقية التي تشمل الحدود الإسرائيلية – الأردنية. كما تقرر أيضا دخول قوات عربية للأردن من مصر والعراق وسوريا والسعودية من أجل تقوية الجبهة الأردنية. وأخيرا تقرر تعزيز سلاح الجو الملكي الأردني صغير الحجم بدعم جوي من مصر والعراق.

وحسب موقع الجيش الأردني، عندما بدأ القتال صباح يوم ٥ يونيو، أصدر عبد المنعم رياض أوامر بأن تقوم كتيبة الصاعقة 33 وكتيبة الصاعقة 53 المصريتان في قطاعي جنين ورام الله بتنفيذ مهامهما مع آخر ضوء وهي تدمير مطارات هرتسليا وعينشمير وكفار وسركين واللد والرملة ومحطات الرادار الموجودة فيها.”

ولذا يبدو أن قوات الصاعقة المصرية من الكتيبتين ٣٣ و٥٣ كانت قد وصلتا بالفعل للأردن قبل يوم ٥ يونيو. وهو ما يؤكده اللواء مدحت عثمان في حديثه السابق الإشارة إليه عندما قال إنه عندما وصل لمدرسة الصاعقة يوم ٤ يونيو كان جلال هريدي قد رحل بالفعل للأردن.

وفي مقال له بعنوان “معتدل مارش داخل مستعمرة إسرائيلية” نشره بتاريخ ٣١ مايو ٢٠١٨ في موقع “مجموعة ٧٣ مؤرخين”، يقول أحمد زايد إنه كان هناك أربع دوريات (الدورية قوامها حوالي ٧٥ فردا) من الصاعقة داخل الأردن بحلول يوم ٥ يونيو، وكانت هذه الدوريات تعسكر داخل “معسكرات الجيش الأردني في القدس الشريف تجاه الاراضي الفلسطينية المحتلة هدفها المطارات الإسرائيلية كما هو مخطط لها مسبقا: نبيل الزفتاوي يهاجم مطار اللد؛ مدحت الريس يهاجم مطار الرملة؛ حسين مختار يهاجم مطار حاتسور.” (لم يذكر أحمد زايد اسم قائد الدورية الرابعة أو هدفها).

ويضيف اللواء (لاحقا) عبده أحمد عرفة، أحد أعضاء الكتيبة ٣٣ صاعقة، معلومات هامة هن كيفية وصوله للضفة الغربية، وذلك في حديث لموقع مجموعة ٧٣ مؤرخين بتاريخ ٢ أكتوبر ٢٠١٨: 

“كانت نظرتنا للعدو سببها هو جهل طبيعة العدو بسبب نقص المعلومات. كنا نتصور أننا قادرون على أن نهزم إسرائيل في أي وقت وأن نحرر فلسطين.

في نهاية شهر مايو عام 67 بدأنا نتحرك إلى منطقة خشم الطرف في سيناء حوالي 20 كيلو من إيلات. لم نكن نعلم أن هناك حرب، وعسكرنا هناك، …. في 2 يونية صدر أمر بتحركنا إلى مطار المليز في وسط سيناء. تحركنا وعند الوصول وجدنا طائرات نقل ركبنا بها، ولم نكن نعرف أي شيء [عن وجهتنا؟] وهبطنا في عمان وصلنا الساعة 2 صباحًا. وفي يوم 3 يونية ذهبنا إلى معسكر في منطقة جنين في الضفة الغربية ونزلت كتيبة أخرى [الكتيبة ٥٣؟] في القدس الشرقية.

رتبنا وجهزنا الأعمال الإدارية في هذا المكان ونظمنا اليوم التدريبي لنا ولم نكن نعلم أن هناك حرب، ولكن كان سبب وجودنا في هذا المكان وهذا ما علمناه وقتها أننا مكلفون بالإغارة على قواعد للعدو. ولكن في صباح 5 يونية، أخذ العدو المبادأة في غارة جوية ضربت المعسكر، ولكنه كان طيرانًا رديئًا جدًا. … ولم تكن هناك أية خسائر في الأفراد، فجمعنا أنفسنا وذهبنا إلى الهدف. ولكن لم يكن معنا أية خرائط. كان معنا دليل تركنا واختفى ولم يظهر. وكان الجيش الأردني على خطوط الدفاع، ولكنه انسحب من أماكنه. وهذا ما رأيناه عند الذهاب لأهدافنا. وللأسف عند الوصول انسحبنا، كان هناك كمائن من العدو، ولكن الحمد لله نجحنا في الابتعاد عنها. تم أسر 7 أفراد من كتيبة أخرى، وعدنا إلى الحدود الأردنية بعد عناء شديد. في مكان لم نكن نعرف طبيعة أرضه فلم يكن معنا أية خرائط تساعدنا في الوصول، تم نقلنا إلى معسكر في منطقة اسمها الزرقاء وجاء إلينا أحد القادة وطلب منا واحدًا متطوعًا يذهب لإحضار زملائه وتطوعت أنا وجاء معي نقيب رجائي عبد المنعم وبعد التجهيز ذهبنا في عربية جيب وفوجئت أننا بداخل عمان وعندما سألنا علمنا بأننا في طريقنا لتأمين السفارة المصرية والسفير المصري لأنه كانت هناك تهديدات ضدهم وقد تم التأمين.”

هنا ينتهي كلام اللواء عبده أحمد عرفة، ومنه يمكن استنتاج بعض العوامل التي قد تشرح سبب هزيمة هذه القوات والنهاية المأساوية التي آلت إليها. فهو يشير إلى سوء التحضير، فالقوة لم تكن على علم بهدفها عندما استقلت الطائرة من سيناء ولم تكن تدري أنها قاصدة الأردن. وهو يشير أيضا إلى غياب الخرائط، وهو الأمر الذي أشار إليه زئيف بلوخ في حديثه مع آدام راز. على أن أهم ما جاء في شهادة اللواء عبده أحمد عرفة هو قوله إن القوات انسحبت بعد وصولها لهدفها: “للأسف عند الوصول انسحبنا.” وهو ما نجد له صدى في روايات أخرى عديدة سنتطرق لها لاحقا.

 

موضوع الأدلاء الأردنيين واختفاؤهم أشار إليه الرائد عبد الله عمر من كتيبة ٥٣ صاعقة في حديثه لموقع “مجموعة ٧٣ مؤرخين” بتاريخ ١٩ يناير ٢٠٢٢. الرائد عبد الله عمر لم يحارب في الأردن، ولكنه يروي عما سمعه من القوات العائدة من هناك. في هذا الحديث يقول: ” عند التحاقنا بالصاعقة حضرت الكتيبة القادمة من الأردن، وتم سرد ما حصل معهم في مطار اللد، وعرفنا بعد ذلك أن الأدلة (دليل الصحراء) من الأردنيين والفلسطينيين قاموا بالتأخير لإيصال الكتيبة المصرية، إذ تم إيصال المصريين قبل الحرب بيوم. كانت حرب ٦٧ تتغير نتائجها [لو تم تجهيز هذه القوات جيدا؟]، وفي صباح اليوم التالي حضر العدو اليهودي قبلهم مما أدي إلى النكسة.”

على أن أوضح شهادة لما حدث مع كتيبتي الصاعقة ٣٣ و٥٣ المتواجدتين في منطقة اللطرون، بل داخل إسرائيل وأمام قواعدها الجوية هي تلك التي يدلي بها أحمد زايد في مقاله المنشور على موقع “مجموعة ٧٣ مؤرخين” السابق الإشارة إليه. في هذا المقال يقول أحمد زايد:

وصلت قوات الصاعقة الي المطارات داخل إسرائيل بدون أن يحس بها أحد، وتمركزت حول المطارات انتظارا للأوامر بتدمير تلك المطارات الرئيسية. وهنا تأتي المفاجأة الصادمة – إشارة عاجلة علي راديو صوت العرب بصوت المذيع أحمد سعيد: “جلال وحلمي عودوا الي مواقعكم”، وهنا يقصد المقدم جلال الهريدي والمقدم أحمد حلمي، قادة قوات الصاعقة في الأردن. وسمع تلك الإشارة عبر الراديو جنودنا المنسحبين [كذا] في سيناء، فظن البعض أنها إشارة شفرية لاسم خط الدفاع الثاني للدفاع عن ما تبقي من سيناء، وبدأوا بالبحث عن خط جلال وحلمي المذعوم [كذا]، ولكنهم لم يدركوا أنها كانت موجهة إلى جنودنا في الأردن. وبدأت قوات الصاعقة تنسحب وسط سخط وغضب الجنود والضباط، فالطيران الإسرائيلي بأكمله تحت أيديهم للفتك به على الأرض، قنبلة واحدة كفيلة بتدمير 3 أو 4 طائرات دفعة واحدة أمام أعينهم، لكن الأوامر واضحة وصارمة ومكررة طوال ليلة 5 يونيو وصباح يوم 6 يونيو: “جلال وحلمي عودوا إلى مواقعكم”، وعادت الدوريات في اتجاه القدس صاغرة للأوامر، اشتبكت بعض الدوريات مع قوات إسرائيلية وكبدتهم خسائر فعنصر المفاجأة في يد قواتنا والمباغتة في صالحنا ودرات معارك طاحنة داخل إسرائيل وكان التفوق لقوات الصاعقة واضحا، …

وتعود قوات الصاعقة إلى القدس إلى نفس معسكرات الجيش الاردني التي انطلقت منه لتجد المعسكرات مهجورة: الطعام على النار، السلاح متروك، الخيام مبعثرة على الأرض، ولا أحد موجود، فقد انسحب الجيش الأردني من القدس. وانصياعا للأوامر تتحرك القوات من القدس لحماية العاصمة الأردنية عمان وبعد فترة إلى سوريا ومنها إلى لبنان وبالبواخر إلى مصر ….”

قبل أن نختم الحديث عن هذه العملية الجريئة والشجاعة والمأساوية في آن واحد، يجب التطرق لجلال هريدي، قائد الصاعقة الذي ارتبط اسمه بتلك الرسالة الغامضة التي سمعها المصريون، في الجبهة وفي الداخل، طوال يومي ٥ و٦ يونيو: “جلال وأحمد عودوا لمواقعكم”. جلال هريدي من قدامى ضباط الصاعقة، وظهر اسمه مؤخرا عندما كرمه الرئيس الأسبق محمد مرسي في عام ٢٠١٢ ورقاه لرتبة الفريق الشرفي. ثم أسس حزبا سياسيا في يونيو ٢٠١٣ باسم “حماة وطن” واستطاع أن يحصل الحزب على ١٨ مقعدا في مجلس النواب مشكلا بذلك رابع الأحزاب حجما من حيث عدد المقاعد في البرلمان. ثم جرى تعيينه في مجلس الشيوخ لاحقا وترأس أولى جلساته في ١٨ أكتوبر ٢٠٢٠ بحكم كونه أكبر الأعضاء سنا (مواليد ١٩٢٩).

 

ولكن جلال هريدي، بالرغم من تكريمه مؤخرا لديه سجل عسكري ملتبس ويثير تساؤلات هامة حول دوره في عملية الصاعقة في الأردن في يونيو ١٩٦٧. فجلال هريدي هو من أرسل لللاذقية في سبتمبر ١٩٦١ في محاولة لوأد الانقلاب الذي قام به عبد الكريم النحلاوي ضد الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة). ولكن عندما علم عبد الناصر أن اللاذقية انضمت للانقلاب، أرسل رسالة لاسلكية لجلال هريدي وهو ما زال في الجو بأن يسلم نفسه للقوات الانقلابية حيث أن مقاومة الانقلاب أصبحت مستحيلة. عندما هبطت طائرة هريدي واقتيد لمحل استجوابه أثنى على الانقلاب وأضاف أن الضباط المصريين في الجيش المصري مستاؤون من حكم جمال عبد الناصر الشمولي وأن هناك جهودا حثيثة للإطاحة به من قِبل الجيش في مصر. وختم حديثه بالقول إن الضباط السوريين بقيامهم بانقلاب ضد عبد الناصر سبقوا زملاءهم المصريين الذين يبتغون نفس الهدف.

ليس معروفا كيف أو متى ترك جلال هريدي قواته في الأردن في يونيو ١٩٦٧. ولكن من المعروف أنه بعد انتهاء القتال تواجد في بيت المشير في الجيزة ثم في أسطال، بلد المشير في المنيا، ثم مرة أخرى في الجيزة حيث أخذ يدرب صعايدة من المنيا على الصاعقة استعدادا للانقلاب الذي أخذ يخطط له بالاشتراك مع عثمان نصار، قائد الفرقة الثالثة مشاة المتمركزة وسط سيناء الذي ترك جنوده أثناء القتال وهرب للقاهرة يوم ٦ يونيو. كما اشترك معهما عباس رضوان، وزير الداخلية، وصلاح نصر، مدير المخابرات العامة، وشمس بدران، وزير الحربية. وقد قبض عليهم جميعا يوم ٢٧ أغسطس ١٩٦٧ وقُدموا للمحاكمة وصدرت بحقهم أحكام بالسجن المؤبد (وليس بالإعدام كما يزعم جلال هريدي في أحاديث كثيرة له). 

وبهذا العرض السريع لسيرة المقدم جلال هريدي (فريق شرفي لاحقا) يمكن لنا أن نجمع خيوط قصة كتيبتي الصاعقة اللتين زُج بهما للأردن في يونيو ١٩٦٧ واللتين انتهى بهما الحال النهاية المأساوية بموت بعض أفرادهما حرقا وانسحاب البعض الآخر لعمان، ومنها لسوريا ثم لبنان وأخيرا للإسكندرية.

أفراد هاتين الكتيبتين كانوا مشبعين حيوية وإخلاص وإقدام. لم تنقصهم الشجاعة أو البطولة. ولكن يبدو من القليل المتاح عنهم أن قادتهم العسكريين لم يكونوا على نفس القدر من الشجاعة أو الإقدام أو الإخلاص. كما يبدوا أنهم سيقوا للقيام بعمليات خطيرة دون أن يزودوا بمعلومات دقيقة عن الأرض التي سيحاربون عليها أو خرائط تفصيلية لأهدافهم. كما يبدوا أن علاقاتهم بزملائهم الأردنيين والفلسطينيين كان يشوبها بعض الحذر والريبة الأمر الذي تدل عليه الإشارة المتكررة لغياب الأدلاء وانسحاب القوات الأردنية. وفوق كل شيء يبدو أن التضارب والتخبط في الأوامر الصادرة من القيادة العليا في القاهرة تسبب، بإشارات أحمد سعيد الإذاعية، ليس فقط في تشرذم عملية الانسحاب من سيناء بل في إجهاض عملية عسكرية داخل أرض العدو كان يمكن أن تحقق قدرا، ولو بسيطا، من النجاح. 

هؤلاء الجنود الذين ماتوا حرقا ودُفنوا في مقابر جماعية يستحقون منا الكثير من التقدير والاحترام. احترامنا لهم وتقديرنا لبطولاتهم يكون بسرد قصتهم حتى تتضح أن نهايتهم المأساوية لم تكن نتيجة تقاعس منهم عن أداء الواجب أو تباطؤ في تنفيذ التعليمات، بل كان نتيجة خذلان قادتهم السياسيين والعسكريين لهم. أقل ما يمكننا تقديمه لهم هو بتكريم ذكراهم العطرة وبسرد قصتهم حسب ما هو متاح من معلومات، وبالمطالبة بالكشف عن الوثائق الرسمية المتعلقة ببطولاتهم، وفوق كل شيء بالمطالبة باسترجاع جثامينهم حتى يدفنوا في تراب الوطن.