يريد ضيف الميادين رجل الأعمال الفلسطيني طلال أبوغزالة قيام الحرب العالمية الثالثة. لكن هذا بالتأكيد ما لا تريده جمهورية الصين الشعبية من قريب أو بعيد. نتفهم بالطبع أن أبوغزالة الذي يجسد اليأس العربي والفلسطيني من الأوضاع الراهنة، يتمنى أن يحصل أي شيء لكي نكسر رتابة التاريخ التي تسير على ما يبدو بخطى ثابتة باتجاه تقويض الدور العربي في السياق الكوني إلى حد مخيف. لكن الصين تنظر إلى الواقع بعيون التفاؤل الكامل بعد أن انتقلت خلال مدة قياسية لا تزيد على ثلاثة عقود من دولة من الصف الأخير إلى الدولة المرشحة لإسقاط الهيمنة الأمريكية في المجالات كلها. الصين معنية بالحياة والازدهار والسلام، وليس الخيار العسكري، ناهيك عن خيار الموت الذي يروج له أبوغزالة، مطروحاً على بساط بحثها إلا على نطاق ضيق ومحسوب تماماً.
تتصف علاقات الصين مع تايوان ومن قبلها هونغ كونغ بسمات معقدة لا يسهل علينا ونحن نعيش بعيداً أن نقدرها جيداً. تبلغ مساحة هونغ كونغ ألف كيلو متر مربع (ربما ما يقارب مساحة منطقة الخليل أو نابلس، وأصغر بالتأكيد من عمان الكبرى) ويبلغ عدد سكانها سبعة ملايين نسمة لا غير. أما ناتجها الاقتصادي السنوي فيبلغ 350 مليار دولار. وهو رقم مذهل بكل المقاييس النسبية والمطلقة والمقارنة. إن هذا الاقتصاد أكبر من اقتصاديات دول بأكملها متجاوزاً ناتج دولة "مميزة" جداً هي إسرائيل، ليصل إلى ثلث ناتج روسيا التي تبلغ مساحتها سبعة عشر مليون كيلو متراً، بالتأكيد ستحرص الصين دائماً على إعطاء الخصوصية اللازمة لهونغ كونغ لكي تواصل نموها الذي يخطف الأبصار ويحير الألباب.
من ناحية أخرى تبلغ مساحة تايوان 36 ألف كيلو متر أي ما يقارب مساحة فلسطين أو ثلث مساحة الأردن. ويبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة. لكن الناتج القومي لها يصل إلى 660 مليار دولار. ولا بد أن الصين تعامل تايوان بالطريقة ذاتها التي تعامل بها إقليم هونغ كونغ بمبدأ ماو تسي تنغ "دع مليون وردة تتفتح". تريد الصين بالطبع تحويل وضع تايوان السياسي إلى جزء رسمي من الصين، لكنها بالتأكيد لا تريد "غزوها" ولا تدميرها ولا تشويش نموها الصاروخي الذي لا يقل عن نمو شقيقتها الصغرى هونغ كونغ أو أمها الكبرى الصين الشعبية.
في ظل هذا الفهم يجب أن نفكر في إدارة الصين لملف الصراع الراهن حول تايوان، ولا أقول أبداً مع تايوان، لأن الأخيرة أصغر بكثير من أن تشكل تحدياً سياسياً أو عسكرياً للصين. ولا يراودنا هنا أية أوهام بأن الصين يمكن أن تواجه ما واجهته روسيا في أوكرانيا فيما لو فكرت في ضم تايوان بالقوة. الصين تتمتع بشعبية كافية وسط مواطنيها من سكان تايوان، كما أن جيشها الهائل قادر بأي ثمن على السيطرة على الجزيرة الصغيرة في ساعات على طريقة صدام حسين مع الكويت سنة 1990 أو طريقة أمريكا مع جرينادا في الثمانينيات...الخ. لكن الصين في رأينا لن تفعل ذلك، أو أنها لن تفعله قبل أن تكون جاهزة لفتح ملفح إزاحة الولايات المتحدة عن عرش الهيمنة الكونية.
لكن الصين ما تزال بعيدة قليلاً عن الجاهزية لذلك الصراع. ما تزال الولايات المتحدة تتمتع بقوة جوية لا نظير لها. بالتأكيد لا يمكن مقارنة القوة الجوية الصينية المحدودة بعشرات الآلاف من الطائرات الأمريكية التي تغطي وجه المعمورة. ومن ناحية ثانية ما تزال الصين قوة بحرية محدودة بحاملة طائرة واحدة موروثة من الزمن السوفييتي، وربما تنجز قريباً الثانية. في مقابل ذلك تتمتع الولايات المتحدة بعشر حاملات حديثة تتمتع بقدرات مرعبة إلى درجة أن القوة الجوية التابعة للحاملات تصل إلى 3700 طائرة.
القيادة الصينية الباردة الأعصاب تدرك بالطبع هذه الفروق الجوهرية في القوة، وهي تعي أن تطوير الصناعة العسكرية الصينية يجب أن يسبق أي خروج علني سافر للمارد الصيني. لقد نجحت الصين في الانتقال الفذ من الصناعات التقليدية التي منحتها لقب مصنع العالم إلى ميدان الصناعات الإلكترونية من أجهزة محمولة وحواسيب وصناعة الإنترنت وعلى رأسها الجيل الخامس الذي تتقدم فيه الصين بوضوح لا ينكره أحد. الصين رسخت تفوقها في الصناعة الميكانيكية والإلكترونية إلى حد مضاهاة أمريكا إن لم يكن التفوق عليها. لكن عليها أن تطور قدراتها العسكرية الجوية والبحرية التي لا غنى عنها لأية قوة كونية ترغب في القيام بأدوار تتجاوز حدودها أو إقليمها القريب لتشمل قارات الدنيا الست.
في انتظار ذلك نرجح أن تواصل الصين المناورات والصراعات الهادئة أو الصاخبة إنما في سياق حرب باردة. تنتظر الصين في قراءتنا أن تسقط تفاحة تايوان من تلقاء نفسها في حجرها، وتنتظر أيضاً ان تترك الولايات المتحدة مقعدها "طواعية" مثلما فعلت أمها بريطانيا عندما وصلت إلى قناعة راسخة بأن الابنة الشابة تقود العالم وتهيمن عليه سراً وعلناً، وأن عليها أن تقر لها علناً بالحق في التتويج على عرش السياسة والاقتصاد الكونيين.