الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إدغار موران: أفكار عن التربية والمدرسة

2022-08-08 11:07:34 AM
إدغار موران: أفكار عن التربية والمدرسة
إدغار موران

الحدث الثقافي

اشتغل مشروع إدغار موران على العديد من الأوراش الفلسفية والمباحث الأنتروبولوجية، ابتداء من مرحلة تفكيره الأولى التي انكب خلالها على دراسة سؤال الموت، ثم انتقاله صوب وجهة ثانية استلهم إبانها معالم أطروحة العقل المركَّب، خلفية رؤيته الأساسية إلى حقائق العالم، وكذا اهتماماته المتنوعة والموسوعية بسوسيولوجيا الثقافة، الجمهور، الشباب، التربية والتعليم.

يجدر بالمدرسة السعي نحو التوفيق بين ثلاث مهام أساسية : أنتروبولوجية، مدنية، وطنية.ثالوث بنيوي، يصب وجهة الروافد التالية : تطوير أهم القدرات المميزة للطفل، تكوين مواطنين يتمتعون بالاستقلالية الذاتية ضمن سياق قدرتهم على الاندماج في المجتمع، ثم الارتقاء بدلالة الحياة والتفكير.

المدرسة فضاء تربوي ،يستطرد موران، يتيح لكل فرد إمكانية استثمار تحقيق تطلعاته في إطار انتمائه إلى الجماعة.هكذا، تترسخ فكرة المسؤولية الشخصية، والتضامن مع الآخر.

*ضرورة توطيد لبنات الحياة الجيدة :

أفق يلزمه كإطار مهيكِلٍ، أولا وأخيرا ، مدخل ومقوِّم فن الحياة  والعيش: أن يتعلم كل واحد منا كيفية العيش، ويستحضر بداية وباستمرار هذا الهاجس. فكرة تعود أصولها، إلى جان جاك روسو.

نعرف بأن قصدية ملهم توجهات التربية الحديثة، توخت أساسا جعل الإنسان محافظا على خاصيته وجوهره الطبيعيين، دون الخلط بين الطبيعي خلال الحالة البدائية، ثم بعدها أثناء الحالة المدنية. أمر يتحقق بواسطة التربية، حيث يمكننا توجيه انفعالات وعواطف الطفل. وإعطائه الوسائل كي لا ينجرّ بلعبة الآراء صوب محددات الدوامة الاجتماعية، مما يفقده ذاته النقية والشفافة.

يقول روسو في إشارة إلى تلميذه: ''أن يعيش، المهمة التي أردت له تعلمها. أعترف بعدم رغبتي، كي ترشده توجيهاتي صوب وجهة أن يصبح قاضيا أو عسكريا أو كاهنا. بل فقط إنسانا ''.

فن العيش، يلتقط الفرد حصيلة أولياته من حلقات الأسرة والمدرسة وقراءة الكتب.

إذن، كي يجعل موران قارئه متمثِّلا بزخم مفهومه عن مركزية دلالة الحياة، باعتباره مدخلا للتربية والتعليم، أحال على كتاب ''إيميل''، العمل الذي تطلب من روسو تأملات استغرقت عشرين سنة، ثم ثلاث سنوات أخرى قصد تدبيجها وفق صياغتها النهائية.

نظرا لتقدمية أفكار دستور التربية الحديثة، أصدر البرلمان الباريسي قرارا يدين محتويات إيميل ويأمر بإحراق صفحاته، وكذا القبض على روسو. أيضا، بادر أحد رهبان مدينة ليون كي يخرج فورا عملا نقيضا سماه "ضد ـ إميل"، داعيا إلى تبني تربية صارمة وعدم الاهتمام بأفكار روسو.

تقوم الأطروحة المركزية لفيلسوف العقد الاجتماعي،على المعادلة التالية: "بهدف التفكير حقا في التربية، من الضروري العودة إلى الطفولة قصد العثور ثانية على الحب". يتصدر أصلا حب الطفل لذاته، مختلف  لحظات وتجارب الوعي الممكنة. مع توسع وتمدّد علاقات وحاجات الطفل، سيتجلى شعوره بروابطه نحو الآخر، تتأتى معه أحاسيس تتقاسمها وتتجاذبها منظومة جديدة تحددها الميولات والواجبات والموانع ؛ ثم يتحول الطفل مثلا إلى شخص : حسود ، مخادع، حقود.

 يلوِّث الاجتماعي ويغتال الطبيعة الإنسانية، عند لحظة الانتقال من عذرية وفطرية حب الذات، إلى سطحية وزيف ما يسميه روسو بالحب الخاص.  

لقد شكَّل روسو مرجعية أولى لاغنى عنها بتاتا، بالنسبة للنسق التربوي الذي يصبو نحوه إدغار موران؛ عبر بوابة المدرسة. النجاح أو الفشل، بخصوص تهيئ المتعلم كي يصبح مواطنا قادرا على مجابهة مشكلات حياته الشخصية، والتشبع بالوعي النقدي نحو مجازفات الخطأ. 

ضمن ذات السياق دائما، يسترشد موران بأبعاد تصور لميشيل دي مونتين، يؤكد بأنَّ :''رأسا مُحْكما قد تهيَّأ بكيفية جيدة، يبقى أفضل من آخر جدّ ممتلئ''. يمدنا العقل المحكم، بإمكانية تنظيم المعارف وتجنب تراكمها بصورة عقيمة.  

إذن، الدعوة للتعلم من أجل غاية أعظم وأكبر تكمن في الحياة. هكذا، نعيش أحرارا، نتمتع بالاستقلالية وحرية الاعتقاد والتفكير.أساس التربية،  بناء معرفة قادرة على استيعاب مشاكل المجتمع وتداخل المعارف وتكاملها، بهدف استيعاب الحياة والآخر ومواجهة الذات، ثم ضرورة تحويل المعلومات التربوية إلى معرفة،حتى تصبح المعرفة حكمة. 

تلعب الإنسانيات دورا مفصليا بين طيات التعلم  الصادر عن الحياة: الأدب، سبيل ملموس نحو معرفة الكائن. الفلسفة، تأمل في الذات. المسرح والشعر والفن والموسيقى، مجالات تعكس شغفا تنتقل من خلاله المعرفة؛ مادامت الأفكار لاتنتقل سوى بالشغف.

*العثور على دلالة القضايا الكبرى :

تربية مبدؤها الحياة، أولا وأخيرا،قصد تمكين الفرد من امتلاك فعالية مَلَكات وديناميكية قدرات يستوعب بفضلها محيطه الخاص والعام.منظومة توجب النظر إلى الإنسان في أبعاده المركَّبة والمتعددة، لذلك يطرح موران التربية ضمن تصور متكامل يصل بين المعارف، عبر آليات تداخل بنيوي ومفاهيمي ،حتى يتحقق فهم التعقيد البشري.

يمنع التخصص الدقيق، من الإحاطة بالحقيقي والجوهري، فالمشكلات الحقيقية ليست جزئية قط. الثقافة الإنسانية شاملة، وينبغي لها تبني هذا المنظور لمعالجة مختلف القضايا، تحت وصاية الذكاء العام.   

يندرج التصور طبعا، ضمن أبحاثه المتعلقة بتفعيل مرجعياته حول التعقيد الإنساني والفكر المركَّب، بالتالي يرفض مختلف مبررات التخصص ودعوات أنصار تجزيء المعرفة. سمة نعاين حاليا هيمنتها، أكثر فأكثر،على توجهات المدرسة الحالية والنظام التربوي .مما يدعو بإلحاح إلى تقويض مسلمات هذا المآل، واستشراف منظور مستقبلي متكامل ومتوازن يضع الإنسان في قلب اهتمامه تبعا لأبعاده المتعددة الفيزيائية، البيولوجية، النفسية، الاجتماعية، التاريخية… ضرورة انكباب التربية والتعليم، بكيفية آنية ومتوازنة، على دراسة الإنسان تبعا لوحدة تعدده وكذا تعدد وحدته، سعيا للإحاطة بحيثيات شرطه ضمن إطار وحدة مركبة.

يفترض تعدد الاختصاصات انتظاما،أساسه التواصل العلائقي والتحاور الجدلي المفتوح بين جل المعارف وتغذية العقل ثم تركيب الفكر.

في إطار التمثيل لاستراتجية  معنى القضايا الكبرى، يبرز على سبيل الذكر سؤال ''ما الإنسان في هذا العالم؟''، الذي يمس مطلقا هويتنا الوجودية، يقتضي الجواب عنه تكوينا معرفيا وتربويا متعدد الاختصاصات، ينهل من الفلسفة و البيولوجيا والأدب والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع… كذلك، وعلى غرار ذات المنوال، يلزم حين السعي مثلا إلى دراسة فيزياء غاليلي أو الأزمة الاقتصادية خلال سنة 1929 ،تضافر جهود الفيزيائي والمؤرخ والفيلسوف، إلخ.

تبعا دائما للمنظور نفسه، ينبغي التوفيق طيلة مراحل الدراسة بين الإنسانيات ثم المعارف النفعية/الأداتية، فالمدرسة بمثابة ورش كبير للتصالح بين احتياجات المجتمع المهنية والتقنية، بجانب النفاذ إلى ثراء ثقافة متعددة تتوزع بين الإنسانيات والأدب والتاريخ واللغات القديمة.

*وظيفة المدرِّس:

لايمكن لمختلف التكنولوجيات الحديثة الاستغناء عن دور المعلم، بحيث سيظل دوره فعالا و فريدا، قوامه النبل الإنساني والحضاري. إنه رئيس الجوقة أو الإله إيروس، فالتعليم والتعلم شغف يحتاج إلى إيروس مثلما أرشدنا أفلاطون.

مع ذلك، ينبغي الإقرار بالتحول الذي عرفته وظيفته ،منذ هيمنة سياق المنظومة الرقمية، ففي العهود السابقة كان يستعرض المعارف، ثم يلتمس من التلاميذ بعد ذلك تأملها. بينما راهنا، نتيجة ثورة ثراء التكنولوجيات من خلال المعارف التي يوفرها الأنترنيت، أضحى دوره البديل موجِّها للمعارف؛ منظِّما لخيوطها المترامية، مرشِدا التلاميذ وسط محيط غامض وسديمي لسيل من المعلومات، فينظِّم مختلف ذلك ويضفي عمقا على مجال تدريسه اعتمادا على معرفته المتخصصة.      

ينبغي أن يحظى المدرِّس بكامل الثقة نحو ذاته ومهمته وكذا وضعه الاعتباري،لأن دوره لايقف فقط عند مجرد تحمل عبء مهمة تلقين معارف معينة،بل يتجاوز سعيه العظيم والجميل، ذلك كثيرا،يتقاسم والطبيب نفس المكانة وذات الرمزية.