ماذا نكتب، وعن ماذا نكتب؟ فهذا المشهد، مشهد الدمار والقتل والموت وعدَّ الضحايا الشهداء منهم والجرحى، عشرين أو مئتين أو ألفين فهم في نظر النفاق الدولي مجرد رقم بات متكرراً لمشهد الإيغال في دمنا.
بماذا نُدَبِّج مقالاتنا؟ بمشهد قيادة تعيش ملهاة الصراع على مستقبلٍ تعبثُ به حد الانهيار، ولا تملك من أمرها شيئاً كي تحتفظ بكرسيِّها سوى كلمات باهتة ومكررة، ثم تذهب لمتابعة الأخبار بقلقٍ ، ليس على المستقبل أو الضحايا، بل،على خيبتها وتراجع شعبيتها وفقدان أهليتها. هذا المشهد ومتفرعاته الإنسانية المؤلمة هو مشهد متجدد. فقد شهدت غزة منذ انقلاب وانقسام حكامها خمسة حروب عدوانية، وهذه هي السادسة. فعن ماذا نكتب؟ عن المشهد الاسرائيلي وأحزابه المتصارعة على دم الفلسطيني، لتحصد من أرواحنا أصواتاً ومقاعد برلمانية في معركتها البائسة، على ديمقراطية وقف مواصلات السبت، أو مزيد من عطاءات الوحدات الاستيطانية فوق صدورنا، ثم تسميها ديمقراطية واحتها المتفردة التي تتباهي بها في هذه المنطقة، وهي مختنقة بدم أهل وأطفال هذه البلاد. فهذا المشهد أيضاً أصبح من يوميات حياتنا التي يتسابق فيها المستوطن "الأكثر تشدداً" في قتل أطفالنا واجتثاث زيتوننا وسرقة مياهنا ومحاولة إلغاء وجودنا، مع المستوطن"الأقل تشدداً" وهو يسوِّق بلغة التزييف والتزوير لما يسمى حق إسرائيل أن تقتل أطفالنا فهذا بالنسبة لهم "دفاع عن النفس" وهي "تحمي أطفالها". فالطفل الفلسطيني الذي هُجِّر أجداده من يافا وحيفا واللد والرملة و اسدود والمجدل وغيرها، سيكون يوماً فدائياً كما كان المسيح يوماً، وتسميه إسرائيل إرهابياً، ولذا فهو لا يستحق الحياة، بينما الطفل الذي ولد أجداده في وارسو وموسكو وكييف وبروكلين وحتى في أثيوبيا، وصادروا من أجل رفاهيته مستقبل أطفال فلسطين، سيكون طياراً حربياً في سلاح جيش إسرائيل الجوي، مكلفاً بحماية نقاء هواء يهودية إسرائيل وأجوائها من الفلسطيني. فهذا المشهد يعيشه مخيم جباليا والشابورة ومعهما مخيم جنين وبلاطة، وعين الحلوة وغيرها من مخيمات اللجوء. وقد دوِّنَ الأدباء والكتاب عن هذه المشاهد روايات وشهادات، وليس فقط مقالات في زمن حكام أمة الضاد الأميين، والذين لا يريدون أن يقرأوا عن ذلك شيئاً.
إذن عن ماذا نكتب اليوم؟ هل نكتب عن حكام غزة الجدد الذين للأسف يتنافسون مع "أخوتهم الأعداء" من حكام الضفة، أيهما الأكثر "عقلانية"وأحقية بعطاء القدرة على الوكالة الأمنية وحدود امتيازها، ودقة الإيفاء بمتطلبات المناقصة؟ أم عن وهم كي الوعي الذي تتوهمه إسرائيل بعد نجاحها في إخراج المهيمنين على "الحكم" وطبقتهما السياسية من "دائرة الصراع"، واستبداله بثمن امتياز الوكالة الأمنية لإدارة "سجن غزة" المحاصر، ونوعية التسهيلات الممنوحة من طعام وشراب و سولار وعدد الزيارات، أو تلك التي تقدمها لحكام الكانتونات قيد الإنشاء.
هذا كله لم يعد يجذب القراء، فقد باتت بالنسبة لهم بضاعة فاسدة وراكدة لا يتداولها أحد . فما الذي يستحق الكتابة والاهتمام ؟! الثابت الوحيد هو الصمود، وكيف أن هذا الشعب كلما أُغرق في دمه كلما أُجبر على جعله زيتاً يعينه على استكشاف الطريق، كي ينهض مجدداً كطائر العنقاء من تحت رماد الموت، ويحمل بإصبعيه المتبقيين في يده الجريحة علامة النصر رمزية أن قضيته حيّة ومستمرة في صعودها ولن تموت، وبهذا فإن إسرائيل العنصرية الهاربة من تاريخها الدموي في كفر قاسم ومخيم رفح والسموع وبحر البقر، تهزم نفسها بسلاح موتنا.
عقلانية حكام غزة "المفاجئة"، والتي تذكرنا بصمتهم أربعين عاماً بعد النكبة، وصمت حكام رام الله الغارقين في سباتهم، لن تكسر إرادة ذلك الشاب في غرفة التحقيق ، وهو يتقن صمتاً مختلفاً، متسلحاً بإغلاق فمه وإشهار عناده حتى لو سقط شهيداً تحت التعذيب أو القصف الهمجي سيَّان. فكلاهما يستهدف إرادته وكي وعيه؛ إلا أن قرار الأجيال الجديدة التي تستولد تجربتها الخاصة "لن يمروا !". فالحرب لم تستهدف فصيلاً بعينه، بقدر ما هي حرب على شعب فلسطين وقضيته ومستقبل وجوده، و لذا فالهزيمة والاستسلام فيها ليس خياراً.
هذا هو المشهد الحقيقي الذي يستحق الكتابة ولا شئ غيره، فهو مخزون ذاكرة الألم والصمود، وحصن القلاع التي لن تنهار . أما السؤال الحقيقي لهذا المشهد، فهو كيف نعيد بناء عناصر القوة التي تُخرجنا من جحيم الحروب والاحتلال والانقسام، وتخرج إسرائيل أيضاً من عنصريتها وهستيريا الفاشية التي تنمو في جنبات احتلالها، وكيف نُمكِّنُ شاباً ناجياً من دمار غزة أو شابة حالمة بالحياة في القدس والناصرة أن يأخذونا إلى بر الحرية والكرامة والأمان .