من أهم المآثر التي يمكن تسجيلها من يوميات الحياة في غزة بعيدا عن الحديث السياسي والتحليلات وجملة المواقف والنقاش الذي واكب العدوان على قطاع غزة دون الغوص في تفاصيل المشهد الدامي، وما جرى من أحداث وكيفية الوصول لتفاهمات متوافق عليها على ارضية وطنية سياسية موحدة، وآليات التصرف في أي عدوان قادم بعيدا عن الحديث بالاستراتيجيات، وكلام كبير كما يقال من الأهمية التركيز هنا خارج كل ذلك على حكايا الناس البسطاء، وأعمالهم الكبيرة حكايات قطاع غزة تحت الحصار رهائن السجن الكبير البطولات الفردية المعبرة عن حس جمعي عال قصص من الألم والفرح فيها الحزن وفيها الكثير فان نرى هؤلاء القوم وهم منا ونحن منهم كيف يتغلبون على الواقع بإبداع ورقي وبساطة إحدى هذه القصص تحتاج للتوثيق، وان تتناقلها الأجيال وأن ترسخ في الأذهان أيضا.
أشرف القيسي 46 عاما بائع الحلوى المعروف على بسطته الصغيرة في بلوك ج هو المعيل لأسرة مكونة من 8 أفراد اتخذ قرارا غريبا لا يقدم عليه أحد مهما كان السبب إلا ما ندر فأن يتمتع إنسان بهذه البساطة وهذا العنفوان بهذه الصفة هو مبعث للفخر، القيسي خلال القصف شاهد تدمير منزل جيرانه في رفح جنوب قطاع غزة مشاهد الأطفال الجرحى المحاصرين تحت البناية المهدومة ركام البيت الذي حولته الصواريخ المعتدية إلى أثر بعد عين ماذا يعمل؟ كيف يساعد المنكوبين!! ربما سمع أو لم يسمع صرخات استغاثة تحت الركام لكن الدماء تحركت في عروقه حسم الأمر توجه أشرف لأفراد الدفاع المدني طلب منهم هدم بيته وسط استغراب الحاضرين اهدموا بيتي قالها المواطن بائع الحلوى لا مجال للوصول للجرحى إلا بهدم البيت في حي الشعوت وسط رفح الفلسطينية بيت متواضع لا يتعدى 65 مترا لم يتردد أو يتشاور مع أحد هذه المسألة لا تنتظر عندما سأله أين تذهب بأسرتك!! وانت لا تملك بيتا آخر أجاب بكل ثقة إلى حيث يذهب من قصفت بيوتهم (الله يعوض) هذا السمو البسيط يتعدى لغات وكلمات كبيرة ديباجات تتطلب تحضيرا جيدا، ومطالعة ودراسة هذا هو الحوار الذي نريده وهذه اللغة التي نحتاجها للحوار بيينا في كافة المجالات وهي التجسيد لأسمى أرضيات الوحدة والتكاتف .
فعلا تم هدم البيت المتواضع لإنقاذ ضحايا العدوان وعملت فرق الدفاع المدني والإسعاف والطوارئ على الوصول لجيران القيسي الذي عبر عن المواطنة الحقة بطريقته الخاصة، وتم التعامل مع الجرحى والمصابين هذه الملحمة سطرها مواطن بسيط هي مثال تتجلى فيه صور البطولة والشهامة في مرحلة خلط أوراق وتراجع الكثير من القيم مؤشر واضح ان البلد رغم كل ما يجري " فيها الخير" كما يقال ما أحوجنا لهذه الأفعال الجليلة الصغيرة والعظيمة في آن وسط تزاحم حب الذات، وتنامي الفردية على حساب المجموع، وما جرى يكشف الكثير عن الفرق بين الادعاء والأصالة بين التصنع والكبرياء بين المصلحية الضيقة والإيثار في زمن يغلب فيه محاولات الاستئثار بمغانم الحرب .
من بين العبر التي يمكن استخلاصها بعد الدعوة للجهات المعنية لتوفير كل ما يلزم لإيواء القيسي واسرته واعادة بناء بيته هو العمل على تشجيع عشرات المبادرات الشبابية، الحملات التطوعية لجيل الشباب الهبات للتبرع بالدم للمصابين في نابلس وغزة وجنين، مساعدة القرى المهمشة التي تتعرض لاعتداءات الجيش والمستوطنين، الأسر المتعففة في المناطق الأكثر فقرا روح العمل التشاركي والجماعي هي قضايا في غاية الاهمية من شأنها اعادة الاعتبار للكثير من القيم والمعاني، تؤكد معنى الانتماء للبلد هي باقية لم تختفي تحت بدعة الانتظار الطويل على اجندة الممولين القيسي جسد معاني تكاد تتخلخل فيها الكثير من البنى المجتمعية إذ كان بإمكانه أن يقول ببساطة جربوا طريقا آخر للوصول للجرحى!! ولن تجد احد يلومه لكنه أصر على هدم بيته ليس أعز من دماء الناس وبيوتهم التي تتلقى صواريخ المحتل هكذا قالها دون وجل ووسط صمود أسطوري وإرادة لا تنكسر هذا النمط من التفكير بحاجة لتعميم الطريقة التي فكر بها القيسي، وقرر فيها وما مثله من نموذج هو بالذات ما نحتاج إليه هناك عشرات بل مئات القصص التي يمكن تطريزها على جبين الفخر، وتروى في زمن الحروب فوقت الشدة تظهر المواقف هذه القصة تصلح أن تكون من أعمال السينما للأفلام والمسلسلات ربما ليس البيت قيمته عالية لكنه كل ما يملك القيسي في حياته وجده وتعبه وعرق السنين، ليمنح القيسي وسام التقدير من الدرجة الأولى أسوة بكل الذين ضحوا وقدموا لوطنهم، إعادة إعمار بيته الصغير ومساعدة بائع الحلوى على مواصلة عمله على البسطة، وإعالة أسرته، وتوفير لقمة عيش للفئات المهمشة الأصيلة التي تقدم كل ما عندها لم تبخل يوما في بذل كل ما تملك إلى جانب إعادة إعمار جميع البيوت المهدمة بفعل آلة الدمار الاحتلالية استكمال العمل من خلال الحملات الاغاثية والانسانية مشهد طفلة صغيرة تبحث عن لعبتها بين الانقاض فيه الكثير، واطفال ينشدون ويغنون للفرح خلف الدخان المتصاعد لما تبقى من احلامهم التي يحاولون قتلها تحت القصف صور الاباء يحملون عيون اطفالهم الى مثواهم الاخير هذه الصور لا تنسى ترسخ عميقا في الذاكرة لا تزال رغم عوامل الزمن وان اخفت الابتسامات الكثير مما يحجبه الواقع هي مداد قوة وبقاء لشعب باكمله يصمد يقاوم يبقى ولا تبدله السنين لا يحيد عن الطريق بساطة العيش هي اليوم دليل على صحة وصوابية النهج والعطاء، وان الطريق الى المستقبل لن تمنعه اشرعه الدمار ولن تنكسر العزيمة فشعب انجب اشرف القيسي وامثاله في القدس وغزة وكل شبر من ارجاء وطننا فلسطين هي حكايات المجد والبطولة التي تحمي الحقوق وتصل للنصر .