إذا ما قُرئ التاريخ الفلسطيني منذ بداية الصراع مع الاحتلال، فإنك تجد صوراً إبداعية مشرقة، أداها النضال الوطني في كل المراحل.
لم يكن الفلسطينيون يوماً متفوقين أو متكافئين ولو نسبياً مع إمكانيات خصومهم، بل كانت الموازين تميل دائماً لمصلحة الخصوم وتحالفاتهم.
ورغم ذلك بل ورغم كل الاختلافات الاجتهادية التي ظهرت في الحياة السياسية الفلسطينية وما أكثرها وأعمقها، إلا أنها لم تنل من صدقية الخطاب الفلسطيني ونجاحاته في الحفاظ على القضية الوطنية كقضية أساسية من قضايا العصر ووضعت الشعب الفلسطيني في مصاف الشعوب المبدعة الجديرة بالحياة والحرية والاستقلال.
كان ذلك بفعل وعي وطني لحدود الاختلاف ومنعه من أن يصل حد الانشقاق والانقسام، أما ما نحن فيه الآن، فقد تجاوزت الظاهرة الفلسطينية كل الخطوط الحمراء وكل المحرمات، فانقسم القوم ليبلغ الانقسام حد الانفصال، وحين تبلغ الكارثة هذا المستوى فإن الإعلام المنقسم من حيث المضمون والأدوات والأهداف، يكون بمثابة الزيت الذي يُصب على النار.
حين لا يجد الإعلام ما يتحدث عنه من إنجازات مقنعة مثلما كان الأمر عليه في زمن الازدهار السياسي والدبلوماسي والمؤسساتي فإن المتصارعين لا يجدون غير التباهي بالماضي ذلك أن ذكريات الماضي تزدهر حين يكون الحاضر فارغاً!
مصطلحات إعلامية جذرها الفراغ السياسي
أفرزت مرحلة التراجع السياسي وانسداد الآفاق تداولاً لمصطلحات تعكس اليأس والاعتراف بقلة الحيلة، وانعدام البدائل. لقد ظهر مصطلح لا يجوز حتى النطق به ولو من قبيل المناورة وهو "سنسلم مفاتيح السلطة لإسرائيل".
لقد تسابق وجهاء الطبقة الرسمية على التغني بهذا المصطلح البائس واعتباره فتحاً في عالم السياسة والإعلام، ما فتح المجال أمام سخرية إسرائيلية محرجة.. حين قال أحد الصحافيين "ولمَ الغلبة فإن النسخة الاصلية للمفتاح هي في يد إسرائيل".
إن المعالجة الإعلامية لضيق المساحة السياسية التي تبقت للفلسطينيين بعد انحسار أوسلو أو انهيارها، حققت نتائج عكسية على صعيد الرأي العام الفلسطيني، وأكرر مرة أخرى إن الإعلام ليس هو المسؤول، ولكن اقتصاره على الترويج للسياسة الرسمية واستبعاده أصحاب الرأي المختلف ضاعف من المردود السلبي للسياسة والإعلام، وللتحقق من ذلك يكفي إلقاء نظرة على ما يكتب وما يقال على المواقع الإلكترونية التي صارت بمثابة "هايد بارك" أو منبر الذين لا تتاح لهم المنابر الرسمية. أنها الأكثر تأثيراً في تشكيل الرأي العام.
الإعلام الفلسطيني بين الأمس واليوم
عشت زمن الإعلام الفلسطيني المتفوق في أدائه رغم قلة أدواته، وذلك في العصر الذهبي لمنظمة التحرير، تميز ذلك العصر بتكامل الأداء الثقافي والإعلامي والسياسي والديبلوماسي، ووراءه رديفه القوي الجهاز العسكري خارج الوطن، والعمل المقاوم داخله، وحين أقول عصرا ذهبيا فقراءتي على هذا القول تثبتها ما كان عندنا من مؤسسات حيوية متقنة البناء والأداء، فمثلا كان مركز الأبحاث الفلسطيني وإلى جواره مركز الدراسات، هو الأفعل والأغنى على مستوى المنطقة، كما كانت الإذاعات الفلسطينية وحضورها على مستوى الشعب والأمة هي الأكثر فاعلية وتأثيرا، وكانت الصحافة الفلسطينية وخصوصا امتداداتها المؤثرة في الصحافة العربية وحتى بعض العالمية، ذات حضور مميز بالخبر والصورة والمعالجات.
كانت قوة الثورة فكرة وأداءً واتساعا توفر للإعلام الفلسطيني وتوأمه الثقافة الفلسطينية مساحات واسعة للعمل والتأثير على أوسع نطاق، ذلك من خلال حضور الأشخاص المبدعين في الثقافة والإعلام ولا أذكر الأسماء أو حتى بعضها لأنها كانت كثيرة ومنتشرة على مستوى العالم كله، وكانت تقدم صورة إيجابية عن الجدارة الفلسطينية من خلال حضورها الفكري والأكاديمي.
آلاف مؤلفة من الأكاديميين في أرقى الجامعات والشعراء والفنانين والكتاب في كل المنابر الهامة، كانوا جميعا يعملون كما لو أنهم فريق واحد أنتجته منظمة التحرير الفلسطينية والحالة الثورية المتكاملة من كل الجوانب.
لم يكن الأمر مجرد أداء متقن على كل مستويات العمل الإعلامي والثقافي، بل كان معززا دائما بإنجازات مقنعة على كل مستويات العمل الوطني وامتداده الإقليمي والعالمي. كان الإعلام ينطق باسم هذه الإنجازات يحميها وتحميه، ويوفر لبعضهما البعض صدقية عميقة وقوية.
هكذا كان الإعلام الفلسطيني في العهد الذهبي لمنظمة التحرير، وها نحن نراه في العهد الراهن مختلفا كليا إذ صار نسخة طبق الأصل عن الإعلام الرسمي العربي، المفارقة المحيرة هي أن الإعلام زمن ازدهار منظمة التحرير وتمركز قيادتها ومؤسساتها في المنفى كان قويا وفعالا رغم ضعف أدواته الذاتية وحتى انعدامها في كثير من المجالات، لم تكن لدى منظمة التحرير إذاعة تبث أربع وعشرين ساعة مثلما كان الحال لغيرها، ولم يكن لديها تلفزيون على الإطلاق إذ كانت تعتمد في حضورها على العلاقات العامة التي توفر لها بعض حضور متقطع في المنابر الأخرى.
كان الإنجاز الفلسطيني على الأرض يفرض حضورا إعلاميا قويا من خلال نقل صوره إلى العالم أجمع فالخبر القوي لا يملك أي منبر مهما كان ولاؤه إنكاره وتجاهله.
الوجه الآخر للمفارقة هو أنه حين صار متاحا للفلسطينيين تأسيس منابر خاصة بهم في هذا الزمن، أي زمن الطفرة الفضائية والإلكترونية ضعف إعلامهم رغم توفر كل الأسباب الموضوعية لأن يكون قويا، فقيادتهم انتقلت للعمل بين مواطنيها وقضيتهم بتطوراتها السلبية والإيجابية صارت أحد المصادر الدائمة للأخبار والمعالجات والمتابعات، صارت المناطق الفلسطينية وما يجري عليها من تطورات متلاحقة أشبه بالغذاء اليومي للمحطات الإذاعية والتلفزيونية العربية والعالمية، وكانت المنابر الفلسطينية هي الأضعف رغم أنها صاحبة الحدث والمكان.
إذا وبصورة موضوعية أضحت الساحة الفلسطينية أهم منتج للأخبار بل صار الحدث الفلسطيني أحد أهم المؤثرات في فاعلية الأجهزة الإعلامية غير الفلسطينية، ذلك ليس بفعل قلة كفاءة لدى الكادر الفلسطيني الذي يعود له الفضل الأكبر في إنجاح المنابر العربية، وإنما لعدة عوامل لمستها أثناء إشرافي على الإعلام الرسمي، وأولها ضعف الإنفاق على الكادر والمعدات بحيث ما إن يجد كادر مؤهل مكانا له في منبر عربي حتى يذهب إليه إذ يوفر المنبر العربي راتبا يصل إلى خمسة أضعاف الراتب الذي يوفره له المنبر الفلسطيني.
والثاني هو التخلف التكنولوجي من حيث الأستوديوهات والمعدات وباقي مستلزمات العمل التلفزيوني والإذاعي المتطور، فكان تلفزيون فلسطين الأرضي والفضائي وكذلك الإذاعة يبثان من بناية مهدمة.
والثالث والأهم لم تكن المساحة المتاحة للمعالجة الإخبارية والحوارية مفتوحة بالقدر الذي هو عليه في المنابر العربية الهابطة من الفضاء المفتوح، وهذا هو حال الإعلام الرسمي ليس عندنا فقط وإنما في كل زمان ومكان.
ورابعا هو ازدحام الإعلام الفلسطيني الرسمي بالعناصر البشرية التي تعد بالآلاف ما خلق أزمة إدارية دائمة تعيق العمل، كان المسؤول ينشغل بمعالجة شؤون الموظفين أكثر بكثير من معالجته للجانب المهني.
والخامس التزام الإعلام الرسمي بأولوية أخبار الرئيس والمسؤولين حتى لو كانت بروتوكولية، ذلك على حساب الأخبار الأهم التي تتولى المنابر الأخرى معالجتها بصورة أكثر موضوعية وكفاءة مهنية، وإذا ما وضعنا التطورات السلبية التي حدثت على صعيد الحالة الفلسطينية في الاعتبار فقد أجهز الانقسام والاقتتال التنافسي طويل الأمد على صدقية الإعلام والسياسة معا كما أجهز على حضوره المفترض بين المواطنين الفلسطينيين، ذلك أن السجال بين المنقسمين احتل وما يزال المكان الأوسع والأشد ضررا في الإعلام.
يتبع
خلاصات واستنتاجات.