حافزي لكتابة هذا المقال محاولة لفت الانتباه إلى ما تقوم به إسرائيل منذ سنوات، لخلق أمر واقع لحدود مياهها الاقتصادية مع الدول المتشاطئة في شرق البحر المتوسط، والذي أخذ يظهر إلى العلن بقوة منذ تفاقم أزمة حقل الغاز "كاريش" مع لبنان، ودخول كل من فرنسا والولايات المتحدة على خط ترتيبات ما بعد ترسيم هذه الحدود، وتهديد حزب الله بقصف الحقل (أي خوض حرب سمتها ودوافعها اقتصادية، لأول مرة) إن لم يتم الاتفاق على ترسيم المياه الاقتصادية بين لبنان وإسرائيل، خاصة وأن حقل كاريش يمتد على جانبي الحدود الاقتصادية بينهما. ناهيك عن تنافس تركيا ومصر واليونان وإيطاليا إسرائيل على الاستئثار بحصة فلسطين من الكعكة النفطية/الغازية. إضافة إلى التحذير من إهمال فلسطيني لهذا الموضوع الاستراتيجي والمصيري بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني.
على الرغم من كل التحفظات الفلسطينية على الاتفاقيات المرحلية الناظمة للعلاقة بين إسرائيل وم.ت.ف، التي انتهت نظريا عام 1999، إلا أن اتفاقية إعلان المبادئ، الموقعة معها في 13/09/1993، تنص صراحة على استهلال المرحلة الانتقالية لمدة 5 سنوات بانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة و"منطقة أريحا"، وبدء "مفاوضات الوضع النهائي" مطلع العام الثالث من المرحلة الانتقالية واختتامها بمعاهدة سلام قبل انتهاء تلك المرحلة. وبالنظر لما ورد صراحة في هذا الاتفاق حول انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة (وليس إعادة انتشارها)، فإن للفلسطينيين الحق المطلق بتحديد ونيل الاعتراف الدولي بحدود المياه الاقتصادية لدولة فلسطين المستقبلية حتى قبل استقلالها، وحمايتها من الاستغلال الإسرائيلي. وسيؤدي تمكين فلسطين من استثمار الموارد الطبيعية والنفطية في مياهها الاقتصادية إلى قفزة نوعية هائلة في حجم الاقتصاد الفلسطيني ونموه نتيجة لذلك.
وقعت م.ت.ف./ السلطة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار مطلع عام 2015، وهذه الاتفاقية هي الناظم والمرجع الأساس لآلية ترسيم حدود المياه الاقتصادية للدول، بما فيها فلسطين التي شرعت كما علمت في ترسيم حدودها المائية، وبالتوازي تقوم إسرائيل منذ أكثر من عقد بنشاط محموم لترسيم حدودها المائية مع معظم الدول المتشاطئة، وتتصرف على أساس أن المياه الإقتصادية الفلسطينية هي جزء من كعكتها، متجاهلة ومعظم هذه الدول حقوق فلسطين بمياهها الاقتصادية، كما هو حال كل منها، علما بأنها لم توقع الاتفاقية الأمنية لقانون البحار حتى تاريخ كتابة هذه السطور، انسجاما مع تطلعاتها الكولونيالية بمياه البحر المتوسط وثرواته، ولما لها فيها من أطماع استراتيجية اقتصادية وأمنية.
صدرت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار سنة 1973 لتنظيم الصلاحيات على المسطحات المائية خارج حدود الدول، وخاضت الدول مفاوضات فيما بينها تحت مظلة الأمم المتحدة إلى أن تم استكمال الاتفاقية وعرضها للتوقيع عام 1982، ودخلت حيز التنفيذ عام 1994. ينظم "قانون البحار" المياه الاقتصادية للدول. وبموجب هذه الاتفاقية، تمتد المياه الإقليمية لأي دولة 12 ميلا بحريا من الحد البري للدولة (1 ميل بحري = 1.852 كيلو متر)، وتحسب المسافة من آخر نقطة من اليابسة تنحسر عنها المياه، وتمارس الدولة سيادة كاملة على هذه المياه باعتبارها جزءا لا يتجزأ من إقليمها. وهناك ما يعرف بالمياه "المتاخمة" وتمتد لمسافة 12 ميلا من حدود المياه الإقليمية، وتمارس فيها الدولة قدرا أقل من السيادة وتطبق عليها قوانينها فيما يتعلق بالجمارك والضرائب والهجرة ومكافحة التلوث. ومن ثم تأتي "المياه الاقتصادية الخالصة" وهي مساحة أخرى تمتد إلى مئتي ميل بحري (370 كيلو متر) كحد أقصى من خط الأساس، لا تمارس عليها الدولة سيادة كاملة، لكن يحق لها استغلال الثروات والموارد المتوفرة فيها، بما فيها الصيد والتنقيب واستخراج النفط والغاز والمعادن، ويتم التقسيم بناء على خط المنتصف بين الدول المتشاطئة. ويعتبر ما يقع خارج المياه الاقتصادية، مياها دولية وفقا لقانون البحار.
يبلغ طول حدود قطاع غزة على البحر المتوسط 41 كم، وبالتالي فإن مساحة حدودها الإقليمية والصلاحيات على المسطحات المائية الخاصة بها تبلغ 912 كم2، بينما تبلغ مساحة مسطحاتها المائية المتاخمة 912 كم2 أخرى. بينما تبلغ مساحة مسطحاتها المائية الاقتصادية 15,170 كم2. في ضوء هذه المعطيات، للقارئ أن يتخيل حجم الثروات الطبيعية ومساحات الصيد وكميات المعادن والنفط والغاز الطبيعي المتوفرة في مياهنا الاقتصادية، والذي تعود ملكيتها الخالصة لشعبنا الفلسطيني، وتضع إسرائيل يدها عليها عنوة وخروجا على القانون الدولي. ولذلك، فإن م.ت.ف./ السلطة الفلسطينية مطالبة بالعمل الحثيث على التمكن من الوصول إلى هذه الموارد واستغلالها (بشفافية وعدالة) لمصلحة شعبنا، إضافة إلى العمل على منع أي جهة، بما في ذلك إسرائيل من استغلال هذه المساحات الشاسعة، التي تعتبر جزءًا أصيلا من السيادة الحرة المطلقة لدولة فلسطين.
قامت وزارة الخارجية الفلسطينية بإيداع خرائط مياهنا الاقتصادية لدى كل من الجامعة العربية والأمم المتحدة، ولكنني لم أجد شخصيا مراجع توفر معلومات كافية بشأن تفاصيل خطوط الحدود المائية الاقتصادية المعتمدة فلسطينيا لدولة فلسطين العتيدة مع أي من الدول المشاطئة بما فيها إسرائيل ومصر، باستثناء معلومات شحيحة منشورة حول جهود حكومة د. رامي الحمدالله في هذا المجال، وبحثه في أحد اجتماعات مجلس الوزراء عام 2017 وقيامها بتحذير الشركات الدولية العاملة في التنقيب عن النفط والغاز في حوض المتوسط، من مغبة انتهاك المياه الاقتصادية لدولة فلسطين (Exclusive Economic Zone, EEZ)، وتكليف ممثل فلسطين في الأمم المتحدة لمتابعة الموضوع، إضافة إلى إيداع خرائط فلسطين البحرية لاحقا لدى الجامعة العربية والأمم المتحدة كما أسلفنا، إلا أنني لم أتمكن من الحصول على معلومات حول تفاصيلها لغايات كتابة هذا المقال، ولا أعلم إن تم وضعها بناء على دراسات علمية ومسوحات ميدانية أم تقديرات جيو سياسية. وعلى ذمة د. رياض منصور، ممثلنا لدى الأمم المتحدة، في تصريح حديث له، فقد شرعت السلطة بمباحثات مع مصر حول الموضوع خلال الشهر الماضي.
في ظل توفر معطيات مشجعة جدا حول كميات هائلة من النفط والغاز ضمن المياه الاقتصادية لكل من مصر وإيطاليا واليونان وتركيا ولبنان و"إسرائيل"، فإن المياه الاقتصادية لدولة فلسطين ستكون حتما زاخرة بمخزون استراتيجي من هذه الموارد، وسيكون كاف برأيي لتصنيف فلسطين كدولة نفطية، ولإحداث انقلاب إيجابي كبير في هيكل وبنية ومحتوى ومتانة الاقتصاد الفلسطيني، ورفع مستوى دخل الفرد بشكل دراماتيكي عندما يحين الوقت للاستثمار في هذه الموارد، وخاصة إن تم إعمال الحوكمة والشفافية في إدارتها. لذلك، فإن التعاطي مع مسألة تحديد المياه الاقتصادية لفلسطين وفقا لقانون البحار، والإصرار على أن هذه الموارد حق خالص للشعب الفلسطيني، بدولة أو بدون دولة، تعتبر مسألة حياة أو موت للكينونة الفلسطينية المستقبلية، وتطور وتنمية الاقتصاد الوطني وتحقيق رفاهية محترمة الشعب الفلسطيني.
لقد لفتت السلطة الفلسطينية الأنظار مبكرا، من حيث لا تدري، إلى احتمالية وجود ثروة نفطية وكميات غاز هائلة في المياه الاقتصادية للدول الواقعة شرق وجنوب البحر المتوسط بعد اكتشاف حقل "غزة مارين A" أواخر القرن الماضي على بعد نحو 36 كيلومتراً غرب غزة، ووضع إسرائيل يدها على حقل مشترك وهو "مارين B" الواقع على الخط الحدودي بين غزة وأسدود، والذي استنزفته إسرائيل قبل سنوات. وقد أثار هذا الكشف شهية إسرائيل للهيمنة على هذه الموارد، وشرعت في حملة تنقيب واسعة النطاق داخل وخارج حدود مياهها الاقتصادية (التي لم تكن معروفة إلى عهد قريب) منذ ذلك الكشف المبكر، مستغلة عدم ترسيم الدول المتشاطئة لحدود مياهها الاقتصادية بينها ومعها.
لقد أكدت جميع المواثيق والقرارات الدولية الصادرة الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة، خاصة قرار رقم (31175) الصادر في 17/12/1973 وما تلاه على حق الشعوب وسيادته على الموارد والثروات الطبيعية، بما في ذلك القرار الأممي رقم 1803 للعام 1962 الذي يؤكد أن السيادة على الموارد الطبيعية هي ركن أساس من أركان سيادة الدول، ومن ثم فإن انتهاك هذه السيادة والتعدي عليها يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
ولذلك، فإن تبني هذا الموقف يعني أنه على م.ت.ف. الموقعة على اتفاقية "قانون البحار" ممارسة حقها بتحديد حدود فلسطين البحرية الإقليمية والمتاخمة والاقتصادية، مع كافة الدول المتشاطئة، وهذا يعني عمليا:
1. تثبيت حق فلسطين بحدود مياه اقتصادية وفقا لنصوص اتفاقية قانون البحار، وتعريف وتحديد هذه الحدود بناء على معطيات القانون.
2. مراجعة أي اتفاقات أو ترتيبات تمت بين إسرائيل والدول المتشاطئة بما في ذلك الشقيقة مصر (المصادقة على القانون عام 1983) وقبرص (المصادقة على القانون عام 1995)، للتأكد من عدم انتهاك إسرائيل أو أي من هذه الدول لحقوقنا في مياهنا الاقتصادية.
3. تعميم ونشر وإتاحة تفاصيل الخرائط البحرية المودعة لدى الجامعة العربية والأمم المتحدة حول حدود مياهنا الاقتصادية، وأي اتفاقات تمت مع مصر أو غيرها لترسيم الحدود البحرية، خاصة تلك الموقعة عام 2021 (خلافا لما أدلى به ممثلنا في الأمم المتحدة الشهر الماضي)، لوقوف الجمهور على ما تضمنه بشأن حدود المياه الاقتصادية الفلسطينية.
4. تكثيف المفاوضات مع الشقيقة مصر وغيرها من الدول المتشاطئة لاستكمال ترسيم حدود المياه الاقتصادية معها، والتي بناء عليها تؤول جميع الاستثمارات المتعلقة بالصيد والتنقيب عن النفط والغاز والمعادن واستغلال الثروات الطبيعية إلى فلسطين، ووضع ترتيبات للقيام باستثمارات مشتركة فيها لمصلحة الاقتصاد الفلسطيني.
5. الضغط والمثابرة لفتح مفاوضات مباشرة وغير مباشرة وعبر الأمم المتحدة وغيرها من المنابر لتثبيت حدود المياه الإقليمية والمتاخمة والاقتصادية لدولة فلسطين المستقبلية مع إسرائيل.
6. اتخاذ خطوات قانونية بالمحافل الدولية لتثبيت حقوقنا بإيرادات جميع الاستثمارات التي قامت بها إسرائيل في المياه الاقتصادية الفلسطينية، والعمل على استعادة الإيرادات بأثر رجعي منذ احتلال إسرائيل لقطاع غزة عام 1967، أو على أقل تقدير منذ تاريخ انتهاء المرحلة الانتقالية في 4 أيار 1999.
إن هذه الخطوات ضرورية فلسطينيا في هذه المرحلة تحديداً، لضمان تثبيت حدود مياهنا الاقتصادية قبل انتهاء الدول المتشاطئة في غرب وجنوب البحر المتوسط من مفاوضات ترسيم حدودها البينية في مياه المتوسط، وبذلك ضمن أننا لن "نخرج من المولد خاليي الوفاض". إن تحديد هذه الحدود ليس ترفا أو تمرينا سياسا، وإنما ضرورة حتمية لتأمين حقوق ومستقبل شعبنا سياسيا واقتصاديا، ومتطلبا وجوديا لإمكانية تأمين عيش كريم لشعبنا بكرامة ودون تعميق التبعية الاقتصادية لإسرائيل، والانتقال بشعبنا في غزة وباقي "دولة فلسطين" من الفقر والجوع والعوز والكفاف إلى مستوى رفيع من الرفاه.