الثلاثاء  03 كانون الأول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الجغرافيا الأولى لحركة البطل

2022-09-08 08:46:30 AM
الجغرافيا الأولى لحركة البطل
رولا سرحان

الجغرافيا والحركة متلازمتان، فكي يكون بالإمكان فهم الجغرافيا بطبيعتها وتضاريسها وحدودها، فإن الحركة فيها وعليها هي لازمتُها. فالجغرافيا دون حركة هي وجودٌ لشيء دون معنى وبلا تعيُّن. لكن هل يمكنُ أن تكون العلاقة عكسية؟ أي أن تكون الحركة بلا جغرافيا غير قابلة للتعين هي الأخرى؟ وهل يمكن الادعاء أن الحركة أسبقُ على الجغرافيا، أم أن الجغرافيا أسبق على الحركة؟ إن سؤالاً دائرياً كهذا، لا يمكن أن يصل إلى نهايةٍ إذا تركنا محدداته مفتوحة، أي دون ضبط الحركة بِـ "مَن؟"، والجغرافيا بـ"أين؟". فالدول الاستعمارية بدأت بتحديد نفسها أولاً بمن هي وما هي جغرافيتها، ومن ثم بدأت بتحديد "الآخر" وجغرافيته، وفرضت نطاق الحركة اتساعاً لصالحها، وتقليصاً لصالحِ "الآخر" بمن هو وما هي جغرافيته، فكانت الحركةُ والجغرافيا، مرتبطةً بالقوة والمعرفة، بعلاقة طرديةٍ بين الاثنتين.

تلك هي إحدى زوايا التحديد. لكن إذا نظرنا من زاوية أخرى، زاوية المستَعمَر، تُصبِحُ حدود الحركة غير مرتبطة بتعيُّن الجغرافيا مكاناً فيزيائياً يمكنُ قياس مساحته رياضياً بطولٍ وعرضٍ وارتفاع. فخطوطُ الحركة لا تعودُ قابلةً للقياسِ على أساس المكان، بل تُصبِحُ خطوط انفلات منه، ونفيا متقدما له. لكن تبقى أمام الحركة معضلةُ تعيين جغرافيا لتتحرك فيها كي تتحقق الحركةُ خارج نقيضها: الـ لا حركة. فالحركة إيقاع. ولأنها إيقاعٌ تُصبِحُ لصيقةً بالجسد، ليكون جغرافيتها الأولى. فكل حركةٍ كانت بدايتها في الجسد بما هو مكانها الأول. الحركةُ ولادةٌ في الجسدِ. والولادةُ كما نعرفها حركة خروجٍ من جسدٍ ودخولٌ في جسدٍ آخر، بما هي حركةُ انبثاق حياة، أي أن الـ لا حركة موت، هكذا نميز الجسد بعد موته بانعدام حركتهِ. وليست الحركةُ نقيض السكون، فالسكون تأهبُ الحركة للحركة. يُعلنُ الوليدُ عن قدومه للحياة بنفي صمته وسكونه بصرخته الأولى وحركته الأولى، قولاً بالحضور ونفياً للغياب أو الموت. تعبيرُ الحضور الأول للحركة هو نفيُ الغياب؛ وهو التعبيرُ الأول لتأصيل الحركة بمكانها الأول: الجسد. ليُصبِحَ تعريفُ الحركة جذري الارتباط بالتأصيل والنفي.

ويُدركُ البطلُ علاقته بالتأصيلِ والنفي بهويته كبطل. فيظلُ يعيدُ تفكيك وتركيب جسده بما هو مساحةُ حركتهِ الأولى، ولربما الأخيرة، تماماً مثلما هو جغرافية الانتصار الأولى. هكذا فهم خليل عواودة علاقة البطل بجسده تأصيلاً ونفياً. بأن أخرج جسده المعتقل من جسده المساحة، بنفي الجسدِ للجسد، وتفكيك الجسدِ المادي عن الجسد الفكرة، في أصعبِ معادلة مقاومة؛ أن يقاومَ الجسدُ جسدَهُ بجسدِه، وينتصرَ عليه. وأدرك قبله إبراهيم النابلسي الجغرافيا الأولى لحركة البطل، بأن خرجَ من جسدِه الإنسان ودخل في جسدهِ الشهيد، خرجَ من الجسدِ العادي إلى الجسدِ الفكرة. وهي معادلةُ تأصيلِ الحضورِ بالغياب عبر تحويل الجسدِ إلى فكرةٍ مثالٍ ونموذج، بأن يستمر الشهيدُ/ الأسير حاضراً في أجساد شهداء/ أسرى آخرين ومحتملين. هو تأصيلٌ للفكرة بما هي حضورٌ متقدمٌ مستمرٌ، وتراكمٌ للأجساد في الجسدِ الواحد/ الفكرة. وهي نفيٌ للنسيان عند نسيان الاسم والعمر ومكان الولادة وزمانها، وتكثيفٌ للتذكر وللذاكرة في كلمة واحدة: شهيد، أسير.

 أما سؤال الاختيار فهو السؤال الصعب: لماذا يختارُ البطلُ جسدهُ جغرافيا لحركته الأولى بما هي انفتاحٌ على غيابهِ ونفي لحضورهِ القائم والفعلي: اسماً، أباً، أخاً، صديقاً، زوجاً، زميلاً... ؟ لماذا يختارُ كسر العلاقات المباشرة الواضحةِ السهلةِ البسيطةِ، ويختارُ علاقة أكثر تكثيفاً وتعقيداً؟ يكتبُ محمد العارضة، من عزل أيالون، بتاريخ 29-8-2022: "الحقائق دائما لا تدرك إلا بعد الصعاب والتجارب"، وجوابُ سؤال: "من يعرِفُ الحقائق؟" هو جوابُ سؤال الاختيار. الجسدُ المعزولُ في زنزانةٍ، والجسدُ الشهيدُ، يُصبحُ جسد الحقيقة، معاناته ومشقتُه هي معانٍ للألم المتكرس والمتكسِّر في توقف الزمن في العزل في الشهادة عن الحركة. فتُصبِحُ الفكرةُ هي الحركةُ والحركةُ هي الفكرةُ، ومساحتها جغرافيا حركة البطل الأولى: جسدُه.