يُشير مفهوم اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ إلى العملية التي يستطيع فيها المواطنون المشاركة في تطوير موازنات الهيئات المحلية، من خلال شراكة ضمن منهجية علمية، ويكون لدى المواطنين الفرصة لتحديد ومناقشة ووضع أولويات مشاريع الإنفاق في الهيئة المحلية، كما يلعب المواطنون دورا مهما في تدقيق ومتابعة ومراقبة عملية إعداد وتنفيذ الموازنة ونتائجها، إن كان ذلك من خلال المواطنين أنفسهم، أو من خلال ممثليهم من مؤسسات واتحادات ونقابات ومجالس ومجموعات ضغط، ويقدمون اقتراحاتهم وتوصياتهم، والهدف الرئيس من اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ هو تطوير موازنات الهيئات المحلية، وفقا لأولويات واحتياجات المواطنين، وتكون مشاركة المواطنين باتخاذ قرارات تتعلق بأولويات الإنفاق والرقابة عليه، للتأكد من الانفاق وفق المخطط، كما تهدف الموازنة التشاركية إلى تعزيز مبادئ الحوكمة، ومن ضمنها الشفافية والنزاهة، والمساءلة، وتكافؤ الفرص، والمشاركة المجتمعية.
وتمت أول عملية كاملة للـ اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ في مدينة بورتو أليغري، في البرازيل، بدءًا من عام 1989. وكانت الموازنة التشاركية جزءًا من مجموعة برامج الإصلاح المبتكرة للتغلب على اللامساواة الشديدة في مستويات المعيشة بين سكان المدينة. حيث يقطن ثلث سكان المدينة في أحياء فقيرة منعزلة بضواحي المدينة، ويفتقرون إلى الوصول للمرافق العامة "المياه، الصرف الصحي، الرعاية الصحية، المدارس"، وقد أدى تطبيق اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ إلى تطوير الخدمات العامة، والاستثمار الأمثل للموارد، وإلى تحسين ظروف الفئات الفقيرة والمهمشة، وعلى الرغم من عدم تمكنها من التغلب على مشكلات أكبر مثل البطالة والفقر، إلا أنها أدّت إلى تحسن ملحوظ في فرص الحصول العادل للمواطنين من الخدمات الاجتماعية العامة.
وقد انتشرت اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ منذ ظهورها في بورتو أليغري في المئات من مدن أمريكا اللاتينية والعشرات من المدن في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية. ومن عناصر نجاح اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ الرئيسة المشاركة الواسعة للمواطنين وممثليهم، والمؤسسات ذات الصلة، حيث باستطاعتهم المشاركة بغض النظر عن خلفياتهم أو مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية، إضافة الى ضرورة استجابة الهيئات المحلية لأولويات المواطنين وممثليهم، والالتزام بشفافية الموازنة في مجالي الإيرادات والنفقات، ومرونة إجراءات التخطيط والموازنة بشكل كافٍ لإتاحة استمرارية التقييم والتصحيح، إضافة الى ضرورة التركيز على قضايا النوع الاجتماعي من خلال المشاركة العادلة لكل للرجال والنساء والشباب والأشخاص من ذوي الإعاقة وكافة الفئات المهمشة، ومراعاة التعددية الثقافية والاجتماعية بما يضمن تكافؤ فرص كافة الفئات دون تمييز.
وتطبيق اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ له مزايا هامة للهيئات المحلية منها: التهيئة نحو إدارة عامة حديثة مبنية على الاحتياجات، الاستفادة من معرفة وخبرة المواطنين والمؤسسات المحلية في وضع أولويات الموازنة، وضع أولويات جماعية وإدارة مشتركة للموارد، استثمار إمكانات المجتمع المحلي، تحسين الخدمات الأساسية وفقا لاحتياجات المواطنين الأكثر إلحاحا، تطوير توقعات واقعية للمواطنين إزاء الهيئة المحلية، حيث يتم فهم المعيقات المالية بطريقة أفضل، بناء ثقة بين الهيئة المحلية والمواطنين،
أداة تسويق اجتماعي لبرامج الهيئة المحلية، وتعزيز مبادئ الحوكمة.
أمّا بالنسبة للمواطن فهي تساهم في دمج للمواطنين وممثليهم في الشأن العام، زيادة مستوى المعلومات لدى المواطنين وفهمهم للتخطيط وارتباطه بالموازنات، تلبية أولويات المواطنين واحتياجاتهم، تعزيز نهج الموازنة المستجيبة للنوع الاجتماعي، تضمين المجموعات المهمشة في آليات صنع القرار، تعزيز الحوار ما بين المواطنين وصنّاع القرار، خلق ثقافة ديمقراطية داخل المجتمع المحلي، تشجيع مشاركة المواطنين في عملية في توزيع الموارد المالية والإشراف على استخدامها، تعزيز شفافية الإدارة العامة والكفاءة والنزاهة في الإنفاق العام بما ينعكس إيجابا على المواطن، تعزيز المساءلة المجتمعية.
اما متطلبات تطبيق اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ، فتمثل في توفر استراتيجية واضحة من وزارة الحكم المحلي والهيئات المحلية، تتضمن الرؤية والسياسات والاهداف، وتحديد حاجات المجتمع، وترتيب أولوياته على أسس ومعايير موضوعية ومهنية، مما يسهم في عدالة توزيع الموارد، ونشر للفكرة والمنهجية من خلال الوسائل المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي، من أجل تعريف المواطنين بها، واشراك فئات متعددة فيها.
وعلى الرغم من نجاح هذا النموذج " اَلْمُوَازَنَة اَلتَّشَارُكِيَّةِ " عالميا، وفي بلدان ظروفها مشابهة لظروف فلسطين، إلا أن تطبيق منهجيتها في فلسطين ما زال يتلَمّس الخُطى، ولا يوجد تطبيق منهجي لها، وان كانت هناك بعض التجارب والنماذج، ولكنها غير مكتملة، وتجارب أخرى شكلية، بمعنى يتم عقد لقاء للمواطنين او ممثليهم ويتم عرض الموازنة كأرقام صمّاء، وبنود متعددة، وهذا ليس المطلوب، فالمطلوب شراكة حقيقية، تبدأ ما قبل اعداد الموازنة، خلال عملية التخطيط وتحديد الأولويات وتجنيد الموارد، وتستمر خلال فترة انفاذ الموازنة للرقابة عليها.
لذا توجد ضرورة لاعتماد هذا النموذج العالمي، خاصّة مع ضخ دماء جديدة في الهيئات المحلية بعد الانتخابات الأخيرة، ومع تطوّر الفكر الإداري في الإدارة المحلية عالميا ومحليا، ولضرورة تعزيز الحوكمة في عمل الهيئات المحلية، وللخروج من نمطية التخطيط البعيد عن الواقع والغير مراعي للمحددات المالية، خاصّة في ظل تراجع الدعم الخارجي والمنح والمساعدات، فقد آن الأوان أن نعمل سويّاً لتعظيم الاستفادة من مواردنا الذاتية، والتخطيط الواقعي الذكي المراعي للأولويات، وتحقيق شعار أهداف التنمية المستدامة 2030 "لا أحد خلف الركب"، والإنفاق الفعلي تبعا للمخطط، والمساءلة على الإنفاق لضمان عدم حدوث انحرافات، وتلبية لمتطلبات الحكم الرشيد.