الحدث الثقافي
المقدّمة:
تتنوع الكتابة عن الآخرين وتتخذ أشكالا عدّة، وأهدافاً مختلفة، وتتحكم فيها ظروف متباينة. كثيرون كتبوا عن كثيرين، مقربين وغرباء، أصدقاء وأعداء، وخاصة الراحلين. والكتابة عن الراحلين في مجملها تأخذ طابعا سرديا، أو نقدياً، أو رثاء شعريّاً، لكنها بكل أشكالها تحمل فكرة الاستعادة بكل ما يحمل هذا الدالّ من مدلولات؛ سواء أكانت استعادة شخصية أم استعادة إبداعية، وتحمل في ثناياها في الأعم الأغلب مشاعر إيجابية، وإن لم يخلُ بعضها بطبيعة الحال من مشاعر سلبية انتقامية هجائية أو هجومية، لذلك فإن هذا النوع من الكتابة، تسيطر عليه نزعة التبجيل، ويسكنه الحنين إيجابيا، أو الجنون كتقدير مشاعر سلبية، والأمثلة أكثر مما تحصى، ولعل أهمها ما يكتب عن الشخصيات العامة، من أنبياء، وملوك، ومصلحين، وأدباء، وربما أيضا عن أصدقاء أعزاء.
الكاتب محمود شقير، الكاتب المقدسي، له أكثر من تسعين عملا إبداعيا في شتى الصنوف والأجناس الأدبية، كتب عن راحلين كثيرين، وأعد كتبا عنهم أيضا، وكان آخرها كتابه عن "فؤاد نصار- القائد الإنسان"، أما تأليفا فإن شقير أصدر ثلاثة كتب متصلة في أهدافها، ومتفقة في أسلوبها، وهي كتاب "فدوى طوقان... الرحلة الأبهى" عام 2018، وكتاب "بيت من ألوان- إسماعيل وتمام"، وكتاب "غسان كنفاني إلى الأبد"، وصدر هذان الكتابان عام 2022، وهذه الكتب الثلاثة موجهة للفتيات والفتيان، لتحقق أهدافها في إحياء ذكرى الراحلين الأربعة: "فدوى طوقان، وإسماعيل شموط، وتمام الأكحل، وغسان كنفاني".
الهدف والمآل وسبب التأليف:
يتعمّد الكاتب محمود شقير في هذه الكتب أن يتتبع مظاهر الإبداع في حياة كل شخصية من هذه الشخصيات الثلاث، والعوامل التي ساعدتها على أن تكون مبدعة، وصرح بذلك في كتابه عن غسان كنفاني، حيث أشار إلى مجالات عبقريته الفذة، بناء على حياة غسان وظروفه التي مرّ بها، وتصلح هذه الكتب لدراسة عوامل الإبداع أو التأسيس على هذه الفكرة لدى الكتّاب والمبدعين. إذ قليلاً ما يُلتفت إلى هذا الجانب في الدراسات أو الكتابات الإبداعية، هذه العوامل التي أولتها بعض الدراسات التي تهتم بسيكولوجيا الإبداع أهميتها، فثمة خيط ناظم يشد هذه الكتب معاً.
يشبه هذا العمل إلى حد ما، ما قام به على سبيل المثال الكاتب عباس محمود العقاد في سلسلة عبقرياته المشهورة، وإن لم يتعمق شقير كثيرا تعمق العقاد في هذه المسألة، وإنما اكتفى بإثارتها على مستوى الوعي الطفولي المتقدم، سن المراهقة والبلوغ، وهو سن التساؤلات المصاحبة لبناء عملية التفكير المنظمة لدى الفتيات والفتيان.
إذاً، تشكل هذه الكتب معاً مشروعا واحداً يمكن أن يبني على منواله الكاتب نفسه أو كتاب آخرون، فيتناولون سير المبدعين وأعمالهم لتكون بين أيدي الناشئة، وأن يكون هناك ترجمة لهذه الكتب، بعد أن تمت ترجمة كتاب فدوى طوقان إلى اللغة الإنجليزية، والشروع بترجمة كتاب غسان كنفاني، وضرورة العمل على ترجمة كتاب "بيت من ألوان" أيضاً، ليكون مشروعاً ثقافيا متكاملا بلغتين، لما لهذا من أهمية بالغة، عدا أن هذه الكتب يمكن لها أن تكون بين قطاع كبير من الفتيات والفتيان عبر توزيعها على المدارس، كما سبق وتم توزيع كتاب "فدوى طوقان... الرحلة الأبهى"، وأن يكون التوزيع بالنسختين العربية والمترجمة.
اعتمد شقير في الكتابة عن هؤلاء الأعلام على مؤلفاتهم، ويشير إليها في ما يحيط بتلك الكتب من إشارات، ولم تكن مراجعه ومصادره متعددة وإحاطية وشاملة، شمولية الباحث الدارس، وإنما توجّه إلى تلك المصادر التي تخدم الهدف وتعمّقه وتساعد على تبئيره في العمل، ويتوخّى أن ينتقل إلى قرّائه.
كما أن هذه الكتب الثلاثة لا تجري وراء الإشكاليات الخاصة في حياة هؤلاء الكتاب الشخصية، إنما ترسم لهم صورة جميلة، تدخل في باب الترويج لهم، ولما كتبوه، وتعظيم مسيرة حياتهم وما أنتجوه من إبداع وفنّ وتعيدهم إلى الحياة بين الأجيال الجديدة كمبدعين مميزين تركوا بصماتهم في مجالاتهم التي أبدعوا فيها، ليتعرفوا إليهم إنسانيا وإبداعياً، لذلك فهي لا تصلح أن تكون سيراً غيرية شاملة، لأنها تركز على جوانب معينة، وتسقط من اعتباراتها جوانب أخرى، لها أهميتها عند كتّاب السيرة ونقادها، فعلى سبيل المثال أسقط الكاتب- عدا ما ذكره من تجربة الحب الأولى عند فدوى- من الحديث تجارب الحبّ المتعددة التي مرّت بها ثماني مرّات، وكان لها فيها علاقات مع أدباء وكتاب ومثقفين ذوي حضور وتأثير في الساحة الثقافية، ولا أجد مبررا لمثل هذا، لاسيما أن التجارب الوجدانية فيما يتصل بعاطفة الحب بين المرأة والرجل من أهم بواعث العبقرية والإبداع لدى طرفي العلاقة، سواء بسواء، وليس كما هو شائع أن لها تأثيرا لدى الرجل الأديب وحده، كما هو الحال مع الخنساء وليلى الأخيلية، ومن العصر الحديث تمثل الشاعرتان لميعة عباس وعاتكة الخزرجي والروائية الجزائرية مليكة مقدم في روايتها "رجالي"، بالإضافة إلى الشاعرة فدوى طوقان نفسها، أمثلة جيدة على عمق الأثر الكتابي لهؤلاء الأديبات في حياتهن وما أنتجنه من كتابة شعرية ونثرية سردية.
ارتبط كتاب شقير عن فدوى طوقان بمناسبة مرور مئة عام على ولادتها، ويندرج ضمن خطة وزارة الثقافة الفلسطينية بالاحتفاء بمئويات المبدعين الفلسطينيين والمبدعات الفلسطينيات، في حين أن كتاب "بيت من ألوان" لم يرتبط بمناسبة ما، وإنما دفع المؤلف لذلك ما وجده في كتاب تمام الأكحل زوجة إسماعيل شموط "اليد ترى والقلب يرسم... سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط" من قصة الحذاء التي أثارته ليكتب هذا الكتاب، كما جاء في لقاء مع الكتاب، نشر في موقع الجزيرة نت (ينظر: "بيت من ألوان" لمحمود شقير... قصص متناسلة من عذابات الأحذية المشرّدة، أسيل الجندي، نُشر بتاريخ: 22/3/2022). ويتفق كتاب "غسان كنفاني إلى الأبد" مع كتاب "فدوى طوقان... الرحلة الأبهى" في أنه جاء ضمن إحياء وزارة الثقافة الفلسطينية للذكرى الخمسين لاغتيال كنفاني.
الوحدة في الأسلوب:
صيغت هذه الكتب بطريقة سردية متشابهة، حيث كان السارد فيها يسرد الحكاية بضمير المتكلم. وإن أشرك معه أصحاب الحكاية في السرد، على الرغم من أنه اقتبس كثيرا من شعر فدوى، ومنحها مساحة أوسع للحديث أكثر من حضور غسان متكلما ومشاركاً في السرد في كتاب "غسان كنفاني إلى الأبد"، وأكثر من إسماعيل وتمام، بل إن الناحية السردية كانت شبه ميّتة في كتاب "بيت من ألوان"، مركزا فيها شقير على الأفكار والمعلومات، وبناء على ذلك فإن السارد في هذه الكتب الثلاثة لم يكن ساردا حكائيا؛ روائيا أو قصصيا، إنما كان الكاتب نفسه "ساردا مشاركا"، وقد اقترب من التصريح باسمه في مواضع متعددة، وخاصة أن هذه الكتب أيضا اتكأت في جانب منها على سيرة شقير الذاتية، ذاكرا بعض أسماء كتبه أو قصصه القصيرة ومكان سكنه وأسفاره وعمله ومشاركاته الأدبية، ونحو ذلك.
تقوم استراتيجية العنوان في الكتب الثلاثة على التناص الجزئي الذي يحيل إلى إبداعات من يكتب عنهم؛ ففي كتاب فدوى طوقان اعتمد بشكل أساسي على عنوان كتابيها "رحلة جبلية رحلة صعبة" و"الرحلة الأصعب"، ليصل بالقارئ فاتحا أفق التفاؤل أمامه فيكون العنوان "الرحلة الأبهى" مبتعدا عن ظلال التشاؤم التي قد تتبادر إلى الذهن من العنوانين الأصليين، وكذلك فعل عندما اتخذ عنوان كتابه عن إسماعيل وتمام من حوار دار بينهما (إسماعيل وتمام) عندما اتفقا على الزواج، وحددا بيتهما؛ فهما يريدان أن يسكنا "بيتا من ألوان، بيتا لا يقدر على تدميره أي عدوان"، مع ما في هذا العنوان من إشارة إلى موهبتهما الخاصة المتعلقة بالرسم، وبالتفكير ذاته أيضا جاء كتاب "غسان كنفاني إلى الأبد" ليحيل بشكل كبير إلى مسرحية غسان كنفاني "جسر إلى الأبد"، متفقا مع مناسبة تخليد ذكرى غسان كنفاني كونه ارتقى شهيدا، بفعل الإجرام الصهيوني المدبر.
ومن الملاحظ في استراتيجية صياغة العناوين، أنها اتخذت من اسم الكاتب مرتكزا أساسيا في كتابيْ "فدوى طوقان" و"غسان كنفاني"، مع تراجع اسم الكاتبين الآخرين في كتاب "بيت من ألوان" ليكون اسم إسماعيل وتمام في ذيل العنوان، ولعل الدافع وراء ذلك هو أن "بيت من ألوان" عنوان جامع بين شخصيتين، لما لدالّ "البيت" من دلالة الجمع ووحدة المصير والحياة المشتركة بين بطلي الكتاب (إسماعيل وتمام)، وليس كما هو الحال في الكتابين الآخرين، فقد جاء كل كتاب خاصّاً، يتناول حياة كل واحد منهما.
وكان لهذه العنونة أثرها في تصميم صورة الغلاف التي جاءت متوافقة مع هذه الاستراتيجية في العنوان، فاحتلت صورة فدوى طوقان وغسان كنفاني على كلا الغلافين الخاصين بكلا الكتابين، في حين تصدرت غلافَ كتاب "بيت من ألوان" لوحة لتمام الأكحل بعنوان "بيتي في يافا"، وقد ورد ذكر هذا البيت في المتن أيضاً.
تقفز هذه العناوين عن المعاناة التي شكلت هؤلاء الكتّاب، لتنظر إليهم حيث هم الآن؛ الزمن الذي رحلوا فيه، وأثرهم في الزمن الآتي بعد الرحيل الجسدي، ولذلك انحازت هذه العناوين إلى خلاصة التجربة الناجحة، وعلى ذلك تمّ تأسيس فكرة الاستعادة اللازمة في هذه السرود الثلاثة، وركزت في ذهن المتلقي اليافع مآلات المعاناة، حيث التميز والإبداع، ولم تدفعهم تلك العناوين إلى الغرق في لجة اليأس. فهذه الكتب تدفع إلى الأمل والتأمل ومواجهة الصعاب؛ لأن في تلك المواجهة ثماراً طيبة.
لقد اتفقت هذه الكتب فيما بينها كذلك في أن الفنّ والكتابة كان لهما مهمة جليلة في حياة هؤلاء المبدعين، فجاءت كتابة الشعر عند فدوى طوقان خلاصا مما تعانيه من وحدة، وشعور بالنبذ والتسلط الذكوري في عائلتها، فكانت تشعر بالمتعة وهي تكتب، وتنشر أشعارها، وإن كان تحت أسماء مستعارة في بداياتها، ويصف السرد فرحة فدوى العارمة وهي تمارس هذه الهواية التي تطورت لتصبح موهبة شعرية لافتة للنظر.
كما جاء الرسم في بداية المشوار عند تمام الأكحل وإسماعيل شموط للتخلص من مأزق شخصي، والتغلب على مشكلة اختلاف اللون بين فردتي الحذاء لكل واحد منهما، أما غسان كنفاني فجاءت الكتابة مندرجة ضمن سياق أعم وأشمل في مواجهة الآخر، المحتل، فكأن الكتابة والفن عند هؤلاء هي نوع من المقاومة، مقاومة فردية على مستوى شخصي، ومقاومة على مستوى الجماعة القومية أو الجماعة الوطنية.
وتنبغي الإشارة إلى أنّ هذه الكتب الثلاثة قد خلت من الصور بشتى أشكالها، سواء أكانت:
توضيحية: وتكون مهمتها تقريبية تعريفية تساعد على توضيح ما غمض من المضمون أو ما كان أكبر من قدرة مخيلة القارئ المفترض على استيعابه. أو تكميلية: بحيث تكون جزءا من العمل من ناحية بنيوية، لا يصح إغفالها ولا يفهم المضمون دونها، وقد تكون مهمتها تشخيصية، تجسيد الفكرة اللغوية المجرد إلى مشهد مرسوم وتظهر فيها التفاصيل على هيأتها التي لا تستطيع الفكرة الذهنية المجردة توصيلها، مراعاة للقدرات العقلية للفتيات والفتيان، على الرغم من أن الرسومات بشكل عام قد تساهم من باب آخر في تغذية القدرات التخيلية لهذه الفئة من القراء، فتكون من مهامها أنها بنائية تخيليّة.
اضطرابات التجنيس:
إن اتفقت هذه الكتب الثلاثة فيما اتفقت فيه، إلا أنها اضطربت في التجنيس؛ فقد جاء كتاب فدوى طوقان تحت جنس "نص"، ولم يحدد على الغلاف الخارجي، وإنما كتبت في صفحة العنوان الداخلية، وكتاب "بيت من ألوان" تحت جنس الرواية المطبوع فقط على الغلاف الخارجي للكتاب، وخلت من هذا الوصف صفحة العنوان الداخلية، وكتاب غسان تحت جنس "سيرة"، ولم يوجد أيضا على الغلاف الخارجي، وإنما في صفحة العنوان الداخلية، وأظن أن اضطراب التجنيس يؤثر في وحدة المشروع واتساقه أولا، وثانيا، لا يقف عند هذا الاختلاف بين الكتب الثلاثة، إنما يمتد إلى محاكمة الجنس الأدبي في كل كتاب على حدة، فإن أنقذ شقير كتاب فدوى من حرفية انضباط التجنيس إلى إطلاق جنس "نص"؛ وهو تجنيس غائم مائع يستوعب كل نص، بما فيه كل ألوان الشعر وألوان النثر، لكنه يجعل الكتاب خارج حدود التجنيس المحدد، ويفقده شخصيته الإبداعية التي تنتمي إليها الكتب في العادة، ويلجأ إليها الكتّاب أحيانا عندما يشعرون بهذه الحيرة التي تسيطر عليهم في تحديد انتماء الكتاب إلى جنس بعينه، كما فعل محمود درويش على سبيل المثال عندما جنّس كتابه "في حضرة الغياب" على أنه "نص".
لم يرتقِ هذا التوصيف عند النقاد والدارسين الأكاديميين ليصبح جنسا أدبيا، فمعجم مصطلحات الأدب يعرّف النصّ على أنه "الكلمات المطبوعة أو المخطوطة التي يتألف منها الأثر الفني" (مجدي وهبة، ص566)، ويعيد التعريف نفسه تقريبا صاحب كتاب "معجم المصطلحات الأدبية" فيصف النص بأنه: "الكلام الأصلي المكتوب، سواء مخطوطا أو مطبوعاً، فنقول: نص الرواية، نص المسرحية". (نوّاف نصار، ص338). في حين أن بعض كتب المصطلحات الأدبية لم تعر لفظ النص اهتماماً ولم تقف عنده لتعطيه مدلولا فنيا ما، فلم يرتقِ إلى رتبة "المصطلح الأدبي" لدى هؤلاء الباحثين، وهذا يعني التعميم والاستغراق لكل ما هو أدب، ولذلك سيظل محتاجا إلى التجنيس؛ ليتم تعريفه على شكل مُفهم بناء على عناصره الفنيّة التي شكلته.
أما جنس الرواية فلا ينطبق في تقديري الشخصي على كتاب "بيت من ألوان"، لما يفتقده من عناصر الرواية التي يعرفها شقير جيدا، وجربها في رواياته جميعا للفتيان والفتيات وثلاثيته الروائية للكبار، وأحد أعضاء لجنة تحكيم جائزة البوكر للرواية العربية عام 2018، فهذا الكتاب ذو معلومات ومعارف خارج نطاق الحبكة والزمن الروائي والأحداث، وفيه ما فيه من إطناب واستطراد واسترسال وراء شهوة الحديث ليتتبع أمر الأحذية الأخرى بتأثير نصيّ نابع من حذاء إسماعيل شموط الذي كان الباعث الأول عند شقير للكتابة عنه، فكأنه لم يكتب الكتاب إلا من أجل "سيرة حذاء شموط"، مع أنه أهمل كثيرا من "سيرة أحذية" لها شهرتها وحضورها في المدونة الثقافية والسياسية عربيا وعالمياً، وكان لهذه الفكرة أثرها الواضح في تقرير موقع الجزيرة نت السابق الإشارة إليه أعلاه؛ فقد تمحور حول فكرة "الأحذية المتشردة".
إضافة إلى أن هذا الكتاب فيه ذلك الرتق الواضح بين أجزائه التي لم تكن ملتحمة معا في قالب سردي يحمل طابعا روائيا، إذ تشعر بتفكيك البنية السردية، وأن ارتباطها معاً جاء بعبارات عابرة توصل الأجزاء بعضها ببعض، فتشعر القارئ بهذا العسف الواضح وانعدام الترابط، على عكس من الكتابين الآخرين، وعلى ما يبدو فإن للتحكيم والمراجعة واهتمام المؤسسة القائمة على العملين وعرضه على مجموعة من ذوي الشأن جعل البنية السردية أكثر تماسكا من ناحية بنيوية من كتاب "بيت من ألوان"؛ إذ في الغالب لم تُخضع دار النشر الكتاب إلى تلك الإجراءات من التحكيم والمراجعة والتعديل.
كما، يغلب على ظني، أن إطلاق جنس "رواية" على الكتاب كان لدواعٍ تسويقية من دار النشر، فللناشر مثل هذه الاقتراحات غير المنضبطة أحياناً، على ما تحمله هذه الاقتراحات من خديعة للقارئ، وتشويه النص، وتشويش المعرفة في ذهن المتلقي، وخاصة إذا ارتبط في أذهان القراء؛ الفتيان والفتيات، أن هذا هو شكل الرواية الفني.
ويلاحظ القارئ أن حضور تمام الأكحل كان أقل من حضور شموط، فهل كان كتابها- بوصفه المرجع الأساسي لكتاب شقير- يركز على سيرة زوجها وأعماله أكثر من حديثها عن نفسها؟ كما قضى شقير على آخر احتماليةٍ لروائية السرد في ذلك التلخيص الذي ذيّل فيه الكتاب، وأعاد فيه مسيرة حياة إسماعيل شموط تحت عنوان "أول الرحلة... آخر المحطات"، وكان حضور تمام عابرا أيضا في هذا الملخص.
والشيء نفسه يقال بخصوص التجنيس عن الكتاب الثالث "غسان كنفاني إلى الأبد"، فلم يكن سيرة غيرية، أو فكرية لغسان، وافتقر إلى كثير من عناصر السيرة الغيرية (الشخصية والفكرية)، وإنما طغى عليه البعد النقدي ومناقشة أعمال غسان كنفاني السردية، وأفردت لهذه المسألة مقالة خاصة موسعة، فلا داعيَ للتكرار. (يُنظر: صحيفة الحدث، مقال: البعد النقدي في كتاب غسان كنفاني إلى الأبد، عدد (156)، ص20 وص22).
اللغة وأهمية المشروع:
جاءت هذه الكتب بلغة واضحة، عملية، بعيدة عن الإنشاء في تركيب الجملة، محافظة على نقائها اللغوي، وابتعدت عن لغة التصوير والمجاز إلا قليلا في كتاب "بيت من ألوان". أما في المجمل فكانت هذه اللغة هي لغة الإفهام المباشر التي تساعد القارئ المفترض- الفتيات والفتيان- على فهم مضامينها، وما احتوته من رسائل، وبأساليب لغوية غير معقدة، وتمتزج هذه اللغة باللغة المدرسية التي يتعامل معها الطلاب يوميا في كتب المقررات.
تركز هذه اللغة على مخاطبة الوعي وبنائه، وتسعى إلى وضع الأسئلة في طريق السرد، لتساعد الفتيات والفتيان على صقل شخصيتهم في التفكير واتخاذ القرارات على الصعيد الشخصي، فهذا البعد واضح جدا في الكتب الثلاثة من خلال تركيز شقير على المعاناة التي عاشها المبدعون الأربعة، فقد جمعتهم المعاناة الشديدة والاستثنائية، هذه المعاناة كانت سببا في تنمية قدراتهم الإبداعية، كما تبين هذه الكتب كيف خرجوا منها بقرار شخصي، وبتدبير ذاتي، وإرادة قوية، سواء في ذلك المرأة والرجل، وبالتالي فمحمود شقير يبث رسائله غير المباشرة للفتيات والفتيان في ثنايا هذه الكتب ليقبسوا في هذه الاستعادات السردية من مصابيح هؤلاء المبدعين نورا يساعدهم على أن يكونوا فاعلين في مجتمعاتهم، ومشاريع محتملة إبداعية.
لعل شقير في هذه الكتب يؤمن إيمانا لا ريب فيه بأهمية الاعتماد على الذات وقهر الصعاب، كما أنه يؤمن بأهمية الأدب في صقل شخصيات الفتيات والفتيان، ويراهن على الأدب والفن عموما في صناعة الوعي.
وأخيرا فإن شقير ينحاز إلى القراءة والتأمل؛ لأن القراءة التأملية من وجهة نظره أداة من أدواة التغيير الفكري والسلوكي، وبالتالي فإن القراءة أداة فعلية لصناعة الإنسان ليكون شيئا مميزا، وربما هذه القناعة الراسخة لدى شقير هي دافعه الشخصي للكتابة والاستمرار فيها بحماسة كبيرة، تزداد كلما تقدم به العمر، وتركت التجربة أثرها في قلمه وكتبه، وليس في جسده ككاتب يقاوم الزمن وعلامات الشيخوخة بالكتابة الناضجة، والناضحة بالأمل، والضاجّة بالحياة والحيوية.