ما من مكان يمكننا تخيله في فلسطين دون أن نتخيل الإسرائيلي- المستعمر يسبقنا في الوصول إليه، مهما كانت طبيعة هذا المكان، أكانت رمزية أم مادية، عاطفية أم جسدية، تاريخية أم أسطورية، سياسية أم جغرافيةً. فبعد أن حاول المستعمِرُ "احتلال الحب"، على حد تعبير إلياس خوري في مقاله حول قرار الاحتلال بتنظيم العلاقات العاطفية ما بين الفلسطينيين والأجانب، تبين أن الاحتلال يحاول دخول أرحام الفلسطينيات واحتلالها. ورغم أن محاولات تحديد الوجود الديموغرافي في فلسطين ليست بالجديدة، إلا أنها تظل تحملُ محاولاتٍ جديدة. فقد كشفت تقارير صحفية أن طواقم طبية إسرائيلية تقوم بحقن النساء الفلسطينيات البدويات بحقن منع الحمل والتي يجب عدم استعمالها إلا في حالات نادرة جداً، والتي لا يجب أن تكون أصلاً مستعملة لمنع الحمل.
أذكر أنه قبل عدة سنوات كنت قد خضعت لعملية جراحية، كان الطبيبُ الإسرائيلي يُحاول ما قبلها إقناعي بضرورةِ استئصال الرحم، رغم أنه لا علاقةَ بين الإجراءين من الناحية الصحية. لكن مقاربة الطبيب كانت غريبة، "فما دمنا نعتزم شق أسفل البطن، فلمَ لا نتخلص من معاناة شهرية تُعيقُ أن أعيش حياتي بشكل طبيعي طيلة أيام الشهر، طالما أني لا أرغب في إنجاب المزيد من الأطفال". كانت عبارة "أن أعيش حياتي بشكل طبيعي" رنانة وتُشكل مفارقة ما بين وجهَتي نظر حول ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، وتطرحُ سؤال لماذا هذا التحفيز باتجاه حياة غير طبيعية تُصوَّرُ بأنها ستكون طبيعية على حساب قتل احتمالية مقبلة في حياة طبيعية؟
لربما تحمِلُ الكلمات الثلاث: (طبيعي، غير طبيعي، احتمالية) ملخصاً وتكثيفاً للعلاقة ما بين الوجود، نفي الوجود، والنفي المتقدم للوجود. وهي أيضاً تكثيفٌ لسؤال الفعل: ما العمل مع وجودِ هذا الفلسطيني ومع وجوده القادم من المستقبل؟ وحيرةُ الإسرائيلي المستعمر في الجواب على هذا السؤال جلية في فوضاه العنفية تجاه الفلسطيني. وتبدو عبارة "فوضى عنفية" وكأنها تسحب عن المستعمر عنفه الممنهج والممأسس، وهي ليست كذلك، وإنما هي دعوة للنظر من زاوية أخرى للمأزق الوجودي الذي يُعانيه المستعمِر بسبب هذا الحضور واحتمالية الحضور، والتي تسبب له التخبط ولربما التشكيك في طبيعةِ عنفه، وبالتالي ما إن كان يُمكن لوجوده أن يكون طبيعياً في ظل الماضي والآن والاحتمالية القادمة من المستقبل. وهو ما يدفعه على الدوام إلى تجديد أساليبه العنفية وتطويرها، والتي في كل مرة تُثبِتُ عدم جدواها، وتُعيدُ في مكرورية سالبة للفعل إدخاله في دائرة معنى "العنف" في مقابل معنى "الوجود". وفي حلقة سؤال: هل يخلِقُ العنفُ وجوداً قابلاً لأن يكون طبيعياً؟
عندما نفترضُ أن العلاقة ما بين الفلسطيني وبيته وحقله وهويته ووطنه هي علاقة طبيعية، هو ادعاء بالتدفق والسيولة في تماهٍ وانسيابية، بحيث لا تعودُ هناك من قيمة لمعانٍ كثيرة: الدخول/الخروج، التعديل/ الإلغاء، الموت/الحياة، بحيث لا يحتاجُ الفلسطيني إلى العودة إلى تاريخه القديم ما قبل هويته الفلسطينية ما قبل النكبة ليثبتَ أنه فلسطيني، ولا أن ينبشَ أرضه بحثاً عن جرة كنعانية، أو يكتشف نقشاً على جدار يُفيدُ بوجودِه هنا ما قبل التاريخ وأنه ما زال موجوداً بعد تصنيع تاريخ جديد من حوله وهو ليس فيه. يتصرف الفلسطيني بعفوية طبيعية، يُهدمُ بيتهُ فيبني بيتاً آخر، يستشهدُ فيلحقُه شهيدٌ آخر، يُحاصرُ فوق الأرض فيحفرُ نفقاً، يدخل السجن فيؤلف رواية أو ينظم قصيدة. عُنفه طبيعي، منسالٌ سيّال بدفقة شاعرية ورومانسية، فالجانبُ الآخر للعنف القائم على الكراهية، هو العنفُ القائم على الحب، وهو العنف الطبيعي، مثلما تدافعُ الأم عن أبنائها الذي يُشبِهُ أن يدافع فلاحٌ عن شجرة.
لذلك، يمكنُ أن نفهم "فوضى العنف" الفلسطيني، والذي هو غير منظم وغير ممأسس وغير ممنهج، بأنه عنفٌ طبيعي، وعندما يُرادُ له أن يدخل في التنظيم والمأسسة وأن يكون خاضعاً للنظريات والرؤى المنهجية والبلاغة السياسية يتحول إلى عنفٍ غير طبيعي، قد يحمِلُ معه بذور تعديله وتفكيكه وتركيبه. وحين يخضعُ العنفُ الطبيعي للمراجعة، لا يعودُ طبيعياً، لأن سؤال الاستحقاق والأحقية لم تتم الإجابةُ عليه بعد: من يحقُ له تحديدُ معنى العنف فلسطينياً؟ الجواب، لا أحد.
ففي السياقات التي يعيشها الفلسطيني والتي هي سياقات غير طبيعية وغير سوية بالأساس، تكون العودةُ إلى بداهةِ الأمور ودفقتها الطبيعية فعلاً تلقائياً، تنُجب النساء البدويات لأن وجودهن الطبيعي وغريزة بقائهن وبقاء نسلهن هي حقيقة طبيعية، مثل حقيقة ترحالهن من أو استقرارهن في الأمكنة تماشياً مع مقتضيات حياتهن البدوية. ولا يمكن لإبرةِ منع الحمل أن توقف الحمل الفلسطيني بالمطلق، ولا يمكنُ لتشجير النقب أن يحول إسمها من "صحراء النقب" إلى "حديقة النقب"، فلا الصحراءُ تعني أنها قاحلة، ولا الحديقةُ تعني أنها عامرة. لذلك، لا يمكنُ للوجود غير الطبيعي أن يصبح طبيعياً، لذلك يُصطنعُ، وتسمى جهود اصطناعهِ "تطبيعاً". وبهذا، يمكننا أن نفهم صورة جديداً من صور العنف وهو "العنف التطبيعي"، الذي يأتي نتيجة فشل التخلصُ من الفلسطيني، فتجري محاولات استدخال ما هو غير طبيعي في كل حياته حتى إلى داخل أرحام نسائه، كي يتحول كل ما هو طبيعي إلى "تطبيعي"!