رغم الجدل الذي أحدثه خطاب الرئيس عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء الثالث والعشرين من سبتمبر /أيلول، إلا أن الخطاب وبلا شك شخص إلى حد بعيد مسار مظلومية الشعب الفلسطيني بدءاً من نكبة عام 1948، مروراً باحتلال عام 1967، و ما ارتكبته قوات الاحتلال الاسرائيلي من جرائم مستمرة ضد الأبرياء وأرضهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم وحقهم في الحياة الآمنة حتى يومنا هذا.
لقد فرد الرئيس الجزء الأعظم من خطابه لبكائيات دأب على ترديدها منذ العام 2012، حيث تم اختزال السياسة والدبلوماسية الفلسطينية "الأيلولية" بخطاب مظلومية البكائيات المحقة في مرافعة كانت ربما الأقوى هذه المرة، بأن اسرائيل التي ألغت بجرافات الاستيطان واقتحامات المدن اتفاق اوسلو، و هي تصادر أمله الوحيد في تسوية تفاوضية على حل الدولتين، محملاً هذه المرة بالاضافة لاسرائيل ، كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا، وصمت دول أوروبا، المسؤولية على استمرار هذه المعاناة منذ وعد بلفور والنكبة، و استمرار هذه الجرائم بتوفير الحماية لسياسات اسرائيل ضد رغبة الفلسطينيين بالسلام.
غياب بدائل الفشل
هذه المرافعة التي أحيت، بعد أكبر عملية نصب سياسي من قبل حكومة الاحتلال خلال مسيرة أوسلو ، مدى معاناة الخمسة عشر مليون فلسطيني أمام العالم، والذي يرزح منهم خمسة ملايين إنسان تحت قبضة الحكم العسكري الاسرائيلي، و حوالي مليوني فلسطيني تحت القوانين العنصرية في إسرائيل، والباقين اقتلعوا من بيوتهم و شردوا في كل أصقاع الأرض، يعانون قسوة اللجوء والتهجير. إلا أن هذه التغريبة الفلسطينية التي حاول الرئيس عباس ملامستها، خلت من رواية الصمود والمقاومة الباسلة التي شكلت الوجه الآخر للهجمة الصهيونية، وعكست عناد شعب فلسطين و اصراره الأسطوري على البقاء والتمسك بأرض الآباء والأجداد، ومقاومة هذه الهجمة بأطول ثورة في العصر الحديث وأعظم انتفاضة شعبية كبرى خاضتها الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها واستقلالها. فهل كان عدم التوقف أمام هذه المسيرة وتضحياتها الكبرى مجرد صدفة؟ أم هي إشارة من الرئيس بأن خذلان صناع القرار الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني وارادته بالحرية والسلام، لن يفضي باستحضار مثل هذه الخيارات، والتي بدونها ما كان الرئيس نفسه قد تمكن من الجلوس في حديقة البيت الأبيض للتوقيع على أوسلو، الذي نعاه "شهيداً" على يد حكومات اسرائيل المتعاقبة، بعد أن ضمنت اغراق الفلسطينيين في عتمة الانقسام، وعزل قيادته عن عمقها وحاضنتها الشعبية وعن خياراتها الكفاحية.
تجاهل الانقسام وأثره على مستقبل قضيتنا
لقد تجاهل الرئيس أي اشارة لحالة الانقسام، ومخاطرها على مستقبل القضية الفلسطينية، وأثرها ما يسمى بحل الدولتين ذاته،رغم أنه يدرك أن نقطة مواجهة كل تلك المظلومية والتصدي لبكائياتها تبدأ من تحمل القيادة لمسؤولياتها عن فشل مسار خيارها التي ظلت تعتبره وحيداً، حد التفريط بوحدة الشعب ومكانة المنظمة الائتلافية، واستبدالها باستراتيجية قلة الحيلة، وترديد شروط ما يسمى بالرباعية الدولية، التي لم تعد قائمة لا هي ولا شروطها،وانتظار "حوليات أيلول" لخطابات خالية من دسم الفعل، ولا يبنى عليها سياسات أو خطط ملموسة، و ربما ينتهي مفعولها قبل مغادرة قاعة الجمعية العامة، والتي للاسف منذ خمسة عشر عاماً يتزايد عدد المقاعد الشاغرة أثناء خطاب فلسطين فيها.
الخلاص بالعودة لخارطة طريق الشعب
مرة تلو الأخرى نقول" أن طريق الخلاص من هذه المظلومية يبدأ من العودة لخارطة طريق الشعب الذي لم يخذل قضيته يوماً، وما يستدعيه ذلك من عودة لجادة صواب الوحدة الوطنية ومؤسساتها الجامعة، ولمنظمة التحرير الائتلافية كجبهة وطنية تضم كافة القوى ومسؤوليتها التشاركية في صنع القرار الوطني، وليس منظمة "الرئاسة" التي عانت وما زالت من فك وتركيب هيئاتها لضمان الاستمرار في ذات النهج الذي اعلن الرئيس نفسه هذه المرة مدى عقمه وانسداده. واذا كان مسار هذا النهج عقيماً ومسدوداً، وهو كذلك. أفلا يستدعي ذلك اعادة النظر في مضمون وتركيبة أدواته الغارقه في الوهم حد تكريس "عقيدة" استرضاء المحتل؟
قلة الحيلة وغياب استراتيجية للصمود
خطاب الرئيس عكس واقع قلة الحيلة، وكان بمثابة مبتدأ الجملة التي خلت من الخبر ،فظلت ناقصة تنتظر الخطوات المطلوبة. وهي معلومة وجوهرها استراتيجية صمود طويلة الأمد والمصالحة مع المجتمع والناس قبل مصالحة فتح وحماس، واحترام ارادة الشعب بتشكيل حكومة وحدة وطنية تعالج جروح الانقسام، وتهيئ مناخات سياسية و ديمقراطية لانتخابات عامة تتحدي الاحتلال ولا تستجديه . وكل هذه قضايا تشكل منطلق اجماعٍ شعبي يدركها ويعلمها الرئيس جيداً. والسؤال لماذا يتهرب الجميع من مسؤولية التصدي لها ؟! لقد أصاب الرئيس بمطالبة متسببي النكبة والذين يستمرون بتغطية جرائم الاحتلال بالاعتذار لشعب فلسطين وتصويب مسار التاريخ، ولكن ألا يستحق شعبنا اعتذار قيادته له، والتي تركته فريسة الانقسام والتيه خمسة عشر عاماً. وحتى لا نقع في دائرة الانتقال من الشك البناء إلى التشكيك الضار، فهل لنا أن ننتظر دعوة الرئيس للقاء وطني شامل لمناقشة الاستحقاقات الوطنية لخطابه واتخاذ كل ما يلزم من قرارات يكتمل بها خبر جملة الخطاب بمبتدأها ؟