خاص الحدث
الالتصاق بالمكان، والإحساس المباشر به، يولد شعورا بالانتماء له، تحت هذا العنوان تحاول جماعات وشخصيات في "إسرائيل" الترويج لفكرة الصلاة في المسجد الأقصى، وممارسة طقوس كالسجود الملحمي، الذي يصل حد الالتصاق المباشر في الأرض، وهو أقصى درجات الاتصال الجسدي في سبيل تكريس أقصى درجات الاتصال الروحي، بحسب ما يزعمون.
جماعات الهيكل.. التشتت والتنظيم
في آواخر القرن الماضي، كانت مجموعة من الشخصيات الإسرائيلية المحسوبة على التيار القومي الديني تحاول دفع فكرة اقتحام المسجد الأقصى للأمام، ووضعها في الأجندات الحكومية الإسرائيلية، لكن ذلك لم يكن ممكنا بسهولة بسبب سيطرة الأحزاب اللادينية على المشهد السياسي الإسرائيلي، وخاصة حزب العمل، وأيضا بسبب ضعف التيار القومي الديني وعدم قدرته على التأثير في السياسة الإسرائيلية، وكذلك قوة التيار الديني الرافض لهذه الاقتحامات، وأخيرا عدم الانسجام الفكري بين التيارات الداعمة لاقتحامات الأقصى.
في ذلك الوقت، وصل أصحاب التيار القومي الديني إلى قناعة بضرورة التحالف مع شخصيات مؤثرة في المشهد السياسي الإسرائيلي، وخاصة من حزب الليكود، الذي يصنف على أنه يميني ويضم شخصيات تتبنى الفكر القومي الديني أيديولوجيا بدون مسميات تنظيمية، فكان الحاخام يهودا غليك من حزب الليكود، هو صلة الوصل بين السياسيين وهذه الجماعات، واستطاع تجنيد غلعاد أردان، وإيليت شاكيد، إلى صفه، حيث كان الاثنان في حينه من مسؤولي الحزب.
التأثير المتدرج
بعد تخطي عقبة تبني بعض السياسيين للأفكار الدينية الخاصة باقتحام الأقصى، أصبحت لدى جماعات الهيكل مهمة أخرى، هي الحصول على قرارات من المحاكم الإسرائيلية، وسن القوانين، التي تمنحهم نوعا من الغطاء القانوني لممارسة هذا السلوك. ولكن ذلك لم يكن حلما أو استراتيجية منفصلة عن واقع ينشأ، فقد اعتمد التيار القومي الديني استراتيجية السيطرة على القضاء، الذي كان بالنسبة لهم سيطرة على الحياة السياسية، وقد أصبحت المحاكم الإسرائيلية ساحة مهمة لأنصار هذا التيار، وساعد في ذلك تولي بعض المحسوبين عليهم لمناصب مهمة في وزارة القضاء، من بينهم إيليت شاكيد التي كانت وزيرة للقضاء.
ضمن أصحاب هذا التيار، بعض الشخصيات السياسية المؤثرة والقانون، ولكن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة لهم. فقد تشكلت أحزاب تتبنى أيديولجيتهم، أصبحت هي العامل الأكثر تأثيرا في الحياة السياسية الإسرائيلية، ليس لحجمها، وإنما بسبب حجم الانقسام داخل ما يسمى المجتمع الإسرائيلي، والذي أفرز انقساما سياسيا حادا بين معسكرين، وبالتالي أصبح التيار القومي الديني هو الوسط الذي يحاول كل معسكر استمالته، وفي النهاية تمكنوا من الحصول على منصب رئاسة الوزراء بعدد قليل من المقاعد، نفتالي بينيت كمثال.
السيادة.. مفتاح الدين
كان من الضروري بالنسبة لجماعات الهيكل أن تطرح مفاهيم سياسية خاصة في حوارها مع السياسيين الإسرائيليين، وبعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، تعززت هذه المفاهيم والحجج لديهم. وأصبح لسان حالهم يقول: "إذا كانت القدس ككل عاصمتنا وسيادتنا، فهذا يعني أن الوضع القانوني السابق قد تغير، بما يشمل الوضع في الأقصى، وأي عرقلة لممارسة المستوطنين كامل طقوسهم هناك، هو انتقاص من السيادة". ومن المفارقة الغريبة أن السيادة مفهوم سياسي والصلاة ممارسة دينية، لكن هذه الجماعات حاولت تكريس فكرة أن الصلاة شعيرة سياسية قبل أن تكون أي شيء آخر.
تمكنت هذه الجماعات من وضع أفكارها على طاولة نقاش اللجان الحكومية، ولجان الكنيست، وكل مؤسسات الاحتلال الرسمية، ورفعت شعارا مفاده أن العلماني الإسرائيلي يجب أن يدافع عن صلاة المستوطنين بالأقصى من منطلق سياسي، لأن عدم الصلاة يعني الانتقاص من السيادة، والمتدين الإسرائيلي يجب أن يدافع عن صلاتهم في الأقصى لأنه لا يمكن تنفيذ بعض وصايا التوراة بدون إقامة الهيكل المزعوم الذي تسبقه خطوة عملية تتمثل في إقامة المعبد، ولا يقام المعبد إلا بإقامة الصلاة كخطوة عملية تمهيدية، وهذا يعني أن الصلاة هي أساس عملي لإقامة الهيكل.
لا مكان للمسلمين.. معركة هوية
واحدة من الحجج التي يسوقها التيار الديني المعارض لفكرة اقتحامات الأقصى، أن هذه الاقتحامات تسبب نوعا من التوتر والصدام، والأماكن المقدسة لا يناسبها الصدام وهذا يتعارض مع الحفاظ على قدسية المكان، وبالتالي لا اقتحام إلا بإخلاء الفلسطينيين من المسجد الأقصى بشكل مستمر أو ضمن تقسيم مكاني وزماني. لذلك، تسعى التيارات التي تتبنى فكرة الاقتحام بقوة إلى تكريس التقسيم الزماني والمكاني من أجل استقطاب الآراء الرافضة والمعارضة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بنفي الفلسطيني عن المسجد.
حتى وجود الأطفال والنساء وممارسة بعض الممارسات الاجتماعية، يعتبرها أنصار جماعات الهيكل مساسا بالسيادة، بل يصنفونها كممارسات اجتماعية تشكل هوية الأفراد تجاه المكان، كحيز اجتماعي وديني ووطني خاص، لا يسمحون بأي نوع من المساس فيه، لهذا السبب أحيانا تبنى سياسات الاحتلال في الأقصى على اعتبارات اجتماعية في ظاهرها أمنية، العمر والجنس وغيرها. ولا بد من الإشارة إلى أن الاحتلال يسعى لتفكيك الصفة الموضوعية للعلاقة بين الفلسطيني والمسجد الأقصى من خلال الضبط الاجتماعي والديني.