رأس المال يبحث عن الربح. لا ضير في ذلك. ولا اكتشاف من أي نوع فيما نقول. ولكن المشكلة هي أن رأس المال في العالم المعولم ينقسم إلى نوعين: رأس المال في مركز النظام العالمي، ورأس المال في أطراف النظام. الأول يقود ويهيمن، أما الثاني فيتبع، ويخضع. يولد رأس المال في الأطراف في علاقة تبعية بنيوية بنظيره في المركز. وهنا تحل الكارثة بشعوب الأطراف لأن أداء الطبقة الرأسمالية فيها يأتي قصداً أو سهواً في سياق تكريس مصلحة رأس المال المركزي، حتى لو كان ذلك على حساب الاستقلال القومي السياسي، والاقتصادي، والثقافي.
هل يتوقع مثلاً أن تكون المدارس أو الجامعات النخبة في الولايات المتحدة ناطقة بالعربية أو الصينية؟ هل يمكن أن يكون ذلك هو حال الأكاديميا في ألمانيا أو فرنسا أو اليابان؟ بالطبع لا. أما في قطر ومصر وتايلند وفلسطين، فإن ذلك هو الأساس: اللغة الإنجليزية سيدة الموقف في التعليم والثقافة والخطاب التواصلي اليومي بين أبناء الطبقات العليا في المجتمع. عموماً يتباهى الناس في بلادنا بأنهم يعرفون الإنجليزية أو الفرنسية. لا أحد يتباهى في نيويورك بأنه يعرف أية لغة أجنبية، ومن النادر أن تجد أحداً –باستثناء الوافدين الجدد- يتحدث أية لغة غير الإنجليزية.
ماذا يفعل رأس المال في مركز العالم؟ ينتج السلع الصناعية والتكنولوجية والخدمات، ويصنع الزراعة، ويستورد المواد الخام بشروط غير عادلة، ويصدر منتجاته بأسعار باهظة مطبقاً فكرة "التبادل اللامتكافئ". في المقابل لا يقوم رأس المال في الأطراف بشيء يزيد على الاستيراد والتصدير، وبعض الأعمال في قطاع الخدمات غير المتطورة من قبيل الإنشاء والتعدين. لا يقوم رأس المال في الجنوب بأي عمل مهم في الصناعة. ومن هنا يظل الدور الذي يمكن أن تؤديه العلوم والتكنولوجيا محدوداً. ويظل دور الطبقة المسيطرة مقتصراً على استيراد السلع بأنواعها من الدول الرأسمالية الصناعية الاستعمارية. وتظل دولها وشعوبها مناطق نفوذ مفتوحة بسهولة للنهب الاستعماري.
ما العمل لتحرير الشعوب المقهورة؟ لا بد بالطبع من فك الارتباط التبعي بشمال العالم الاستعماري المصنع، وذلك يشمل فك الارتباط السياسي، والاقتصادي، والعلمي، والأيديولوجي. لكن ذلك للأسف ليس خياراً سهلاً في التطبيق مثلما هو في مستوى القول والنظرية. فها هنا نواجه بمصالح على الأرض الفعلية تربط البرجوازية المحلية في بلادنا بمثلها الأعلى وسيدها في الشمال. وفي الأحوال كلها لن تقوم هذه البرجوازية بإنشاء الصناعات الثقيلة والدقيقة، لأنها مخاطرة قد لا تقود إلى الربح. ومن هنا فإنها تستثمر في قطاعات مضمونة لا فرصة لها للخسارة من قبيل وكالات استيراد السلع الأجنبية التي لا فرصة أمامها تقريباً لأن تخسر. وكذلك بعض الخدمات المحدودة القيمة من قبيل الفنادق والمطاعم وشركات الاتصالات. وفي هذا الحال لا يوجد من مخرج فعلي لهذه الأزمة إلا بالزواج القسري بين الدولة ورأس المال على طريقة كوريا الجنوبية وماليزيا عندما دخلت الدولة بكامل ثقلها في عملية الإنتاج وأجبرت رأس المال مع تقديم الدعم الكامل له على الاستثمار في الصناعة. وهو ما قاد إلى الإقلاع الصناعي في عدد من دول آسيا وعلى رأسها كوريا الجنوبية، ومن قبلها اليابان، وأخيراً الصين الشعبية.
أين رأس المال العربي من ذلك كله؟ رأس المال العربي الكمبرادوري الريعي اعتاد أن يشتري كل شيء من شمال العالم. ويشمل ذلك للأسف خدمات البشر الذين يتم استيرادهم في الخليج ليقوموا تفاصيل الحياة كلها، كل التفاصيل. ويشمل ذلك الممرضات، والممرضين، والمدرسين، وفنيي الشركات التعدينية، وعمال الإنشاءات ومهندسيها، وأساتذة الجامعات، والمثقفين، والباحثين، والصحفيين، والكتاب، والرياضيين، والسواقين، والبائعين في الدكاكين ومراكز التسوق. وقد لا يكون هناك نشاط واحد لا يتم استيراده من الخارج. ويتم تغطية ذلك كله من ريع النفط. الذي يذهب بسعر بخس وفق سياسة التبادل اللا متكافئ إلى مصانع رأس المال في الشمال.
لا يختلف الوضع في فلسطين عن الوضع العام في العالم العربي في كثير أو قليل. فالزراعة والصناعة بوصفهما القطاعان الأساسيان في الإنتاج القومي لأي بلد يتراجعان باستمرار. وفي مقابل ذلك نجد قطاعات المال والخدمات بما فيها الإنشاءات والاتصالات تتصدر المشهد. وقد نمت شريحة طبقية مشوهة في ظل عقود لاستيراد السلع من الخارج لا يستطيع الناتج القومي الفعلي أن يغطيها، وهكذا يتم تغطية الاستهلاك غير الصحي للسلع الكمالية المختلفة بما في ذلك السيارات، وأجهزة الحاسوب، والمحمولات بأنواعها...الخ من فيض الريع الاقتصادي القادم على شكل تمويل من أوروبا وشمال أمريكا للسلطة ومنظمات الأنجزة. وليس غريباً في هذا السياق أن المشغل الرئيس في الضفة الغربية وغزة هو السلطة، ومنظمات الأنجزة. كلاهما يحصل على المال اللازم لدفع رواتب موظفيه من التمويل الأجنبي. ولا بد أن هذا التمويل –مثل كل تمويل- له غاياته، وأجنداته، وبرامجه.
لا يتوقع للأسف من الطبقات البرجوازية التابعة في بلادنا أن تقوم بأي شيء لتغيير الوضع القائم. ولذلك فإن العدو الأول للشعوب العربية هو هذه الطبقات التي تدعو الاستعمار العالمي بين الفينة والأخرى ليقوم بمغامرة جديدة تقوض أسس التنمية والوحدة العربية، وتقوض أي أمل في التصنيع والتزريع عن طريق ضرب المشروع العربي التحرري وتفكيك الدول من جديد بسبب أن حجمها المقر في سايكس بيكو كان أكبر مما يجب. ألم يقل بوش الابن في 2003 إن العراق بلد كبير جداً حتى أن مساحته تساوي مساحة كاليفورنيا، فحسد العراق على هذه المساحة، ثم استلهمه جو بايدن نائب الرئيس الأسمر ووضع اقتراحاً لدى الكونغرس بتقسيم العراق إلى ثلاثة دول على الأقل؟ ينتج عن تفكيك الدول وتجزئتها ربح صاف يتمثل في سهولة السيطرة على المنطقة، ونهبها حتى آخر قطرة دم، وعرق، وبترول، مع توفير الفرصة لتصبح "إسرائيل" دولة عظمى واحدة ووحيدة في منطقتنا العربية، متحالفة مع كيانات قروسطية تذكر بدون كيشوت من قبيل قطر والإمارات.
ليس بالإمكان لسوء الحظ أن نركن إلى رأس المال العربي والمحلي لكي يقوم بوضعنا على خريطة العالم مهما كثر الكلام عن التنمية ومؤتمراتها، واستوردت فروع هارفارد وبرنستون في الدوحة وأبوظبي، وافتتحت برامج للتنمية والديمقراطية في بيرزيت وأبوديس. لا بد من فك التبعية بالاستعمار العالمي، ولا بد من أن يقوم بهذه المهمة قوى وشرائح مجتمعية لا تنتمي إلى صف الرأسمالية التبعية التي لا يقلقها إلا انتزاع الفائض المتحقق من الريع مهما كلف الأمر. غني عن القول إن الوطن، والمواطن، والنهضة، والتحرير، والوحدة العربية، ...الخ كلها مفردات لا تساوي في نظر الرأسماليات المحلية الحبر الذي كتبت به. ولذلك فإن إسقاط الطبقات الاقتصادية الحاكمة وممثليها السياسيين يغدو مدخلاً ضرورياً لأي فعل تحرري في المستويات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية.