دائماً ما أسألُ نفسي إن كان المكانُ يتذكرنا بنفس الطريقة التي نتذكرُ بها المكان. في المنفى، حيث ولدتُ وعشتُ، إلى أن عدتُ نصف عودة –لأني لم أعد بعد عودةً كاملة أتخلّصُ بها من عبء لجوئي- كنت أتساءل هل يمكن لفلسطين أن تعرفني إذا ما عدتُ إليها، هل سيعرفني المكان الذي لم أولد فيه، ولم أعش فيه؟ كنتُ أفترضُ دائماً أنني أعرفُ فلسطين، لكني كنت أتساءل إذا ما كانت فلسطين ستعرفني، أو كيف سنعرِفُ بعضنا، أو كيف سنتعرَّفُ على بعضنا؟ وهل الحنينُ من طرفي يكفي كي يعرف أحدنا الآخر؟ فلا ذاكرة لي في المكان، ولا للمكان ذاكرةٌ عني، فكيف أفترضُ أنني على علاقةٍ بالمكان وأن للمكان علاقةٌ بي؟
لكن، وعند أول حاجزٍ عسكري، يُقدم لك المكانُ كل العلاقةِ التي بينكما، فللمكان ذاكرةٌ أسبقُ على ذاكرتنا وحاضرةٌ حية. وسواء ولدنا في المكان أو أتينا إليه، طُردنا منه أو عدنا إليه، يحملُ المكانُ ذاكرتهُ معهُ ويفتحُ ذاكرتنا عليه، لتبدو فكرةُ الحنين إلى المكان، فكرة اختزالية تشويهية، تحملُ معها فقدان المكان بصيغةٍ نهائية، وكأن الانكسارَ الأول لا يُمكنُ جبرُ ضرره، فنضعُه في حيز المتخيل على شكل "فردوس مفقود" ونتصرفُ على أساسه، ومن خلال عبارات سياسية بلاغية، فنضعُ فكرة العودة داخل القرارات الدولية، ونختصرُ جغرافيا فلسطين في قوسين معقوفين بينهما نصٌ تاريخيٌ مزيف يشقها نصفين.
كل ذلك يرفُضُه المكان، يرفُضُ فكرة الحسم والانتهاء أو النهاية على شكل فقد. ومخيم جنين يكرر الرفض ويحملُ معه ذاكرةً أفضل من ذاكرتنا، فهنالك تتكرر، كل يومٍ، نفسُ المعركة، التي لم تنته بعد. والشهيدُ شقيق الشهيد، ووالدُ الشهيدين حاضرون جميعا لا يخرُجون من المخيم ويجعلُون دخول عدوهم إليه محاولةً شقية.
يُكثِفُ مخيم جنين فكرة "المحاولة الفاشلة" للدخول إلى المكان/ الفردوس الحي، والذي تُكثَّفُ فيه فلسطين، فتصيرُ فلسطين المخيم، والمخيمُ هو كل فلسطين. فمن يُحاولُ الدخول إلى المكان/ المخيم/ فلسطين/ الفردوس عليه أن يُخرِجَ المكان من المكان ليصيرَ شيئاً آخر، فهل يُمكنُ إخراجُ المخيم من المخيم؟ هذا السؤال يُشبِهُ سؤال إذا كان بالإمكان إخراجِ الشهيدِ من الشهادة، أو إخراجُ الأرض من الأرض، أو السماء من السماء. فيكون إخراجُ الشيء عن ذاته صيغة محاولة لتغيير المكان ليصير شيئاً آخر. والمخيمُ، يظلُ يثبِتُ أنه لا يُريدُ أن يصيرَ شيئاً سوى أن يكون اليوم، مثلما كان بالأمس، مخيماً، ويحملُ وحده قدر خروجه عن كونه مخيماً ليكون فلسطين.
ولا يعودُ المخيمُ مخيماً، إلا في حالةٍ واحدة، عندما يفقدُ ذاكرته، فلا يعودُ مذّكرا لمن دخلهُ وهدم البيت فيه واغتال الشهيد ويتم الأبناء وفجع الآباء بأبنائهم. ومخيم جنين لم يفقد ذاكرته بعد، لأنه يتذكر ويظلًّ يذكرنا بأصل العلاقة ما بيننا وما بين عدونا. ففي المخيم مكانٌ للبندقية، ومكانٌ للشهداء، ومكانٌ للتوثيق، ومكانٌ للكتابةٍ، وفيه مسرحٌ، وفيه بيتٌ، وفيه بقالةٌ، وتدورُ فيه معركة. أليست هذه فلسطين اليوم وفلسطين الأمس، أليست هذه فلسطين التي ما زالت تحاولُ حسم معركتها أن تظل فلسطين؟ أليس لمخيم جنين ذاكرة؟