تعتبر "اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ" إحدى مؤشرات الحَوْكَمَة، ومبدأ من مبادئ الحكم الرشيد بمستوياته المختلفة، وهي تُشير إلى مجموعة واسعة من الأعمال والآليات التي يستخدمها المواطنون ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الاعلام وغيرها من الأطراف، في مطالبة من يقومون على إدارة الشأن العام والمال العام؛ لتوضيح قرارات تمّ اتخاذها، والاجابة على أسئلة متعلقة بمهاهم أو بالمشاريع والخدمات أو الفرص التي تم توزيعها أو إدارتها، أو تم الوعد بها من خلال البرامج الانتخابية لاستمالة الناخبين.
وتعدّ َالْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ الإطار الحاكم للعقد الاجتماعي ما بين الحكومة والمواطنين، وتوفّر مساحة تسمح للمجتمع المدني بالمشاركة في عملية التنمية، وتعزز دورهم في إدارة الشأن العام. كما تعتبر اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ من الأدوات المهمة في خلق واقع متقدم ونوعي للإدارة العامّة الرشيدة؛ مما يسهم في إخضاع كل من يتولى سلطة ومسؤولية، للمساءلة عن أفعالهم وقراراتهم، سيّما المتعلقة بإدارة الموارد العامة، من أجل الإسهام في عملية تنمية المجتمع، وتحقيق المزيد من الرفاه للمجتمع والمواطنين.
ففي الدول ذات التداول الديمقراطي للحُكم، تعتبر الانتخابات الدورية الوسيلة الرئيسة التي يُخِضِع المواطنون بها نظام الحكم بمستوياته المختلفة للمساءلة. ولكن تبقى هذه الأداة محدودة، كونها تمارس كل أربع سنوات، ويمكن خلال فترة الحكم أن تحدث انحرافات دون اجراءات تصحيحية، تبعا لضعف السلطات التشريعية والرقابية، او نظرا لسطوة السلطات التنفيذية، وبالتي تصبح عملية المساءلة بعد أربع سنوات خالية من المضمون، وبدون قيمة حقيقية للمواطنين، وإنما فقط وسيلة عقابية للسلطات القائمة، وبالتالي تفقد عملية المساءلة فكرة العمل لتحسين الخدمات، لذا كانت ضرورة وجود اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ المستمرة، من أجل رفع كفاءة عملية التنمية المجتمعية وفاعليتها من خلال الاستخدام الأمثل للموارد، وتحسين تقديم الخدمات، ورسم السياسات بطريقة تشاركية وكفؤة، وتعزيز انخراط المواطنين في الشـأن العام وتمكينهم للمساءلة والرقابة على الأداء الحكومي، والمساهمة في درء مخاطر الفساد، بل تحصين القائمين على الشأن العام من مخاطر الفساد.
وفي الحالة الفلسطينية، فان اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ، تكتسب أهمية خاصّة تبعا لغياب السلطة التشريعية، والتي أناط القانون الأساسي بها مهمة المساءلة والرقابة، فيبقى الأمل معقوداً على منظومة اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ؛ لتعزيز الحوكمة والمساهمة في تحقيق التنمية المجتمعية، وتحصين المؤسسات العامة من مخاطر الفساد.
ومن أجل انفاذ اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ في فلسطين، يجب العمل على تحقيق أركانها الأربعة والتي تشكّل منظومة متكاملة الأبعاد، ودونها تغدو اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ "عرجاء"، فالركن الأول للمساءلة المجتمعية يتمثل في (المشاركة المجتمعية) الواسعة التي تميّز المساءلة المجتمعية عن الآليات التقليدية للمساءلة، والمقصود هنا المشاركة الحقيقية لكافة فئات المجتمع، والتي تشمل اتاحة الفرص لمشاركة الشباب والنساء وذوي الإعاقة، والفئات المهمشة كافّة، بالإضافة الى وسائل الاعلام والمؤسسات ذات الصلة، بعيدا عن المشاركات الشكلية والديكورية لأغراض الترويج عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
أما الركن الثاني فيتمثل في (الشفافية)، التي تتمحور حول دعم الاجراءات التي تمكّن المواطنين من الوصول إلى المعلومات الخاصة بالشأن العام، من خلال قوانين او أنظمة أو تعليمات واضحة، والتي تشمل: الموازنات والميزانيات، الخطط الاستراتيجية والمشاريع، القرارات والتقارير، التعيينات والترقيات.. وغيرها من البيانات المهمّة للمواطن، وتزداد أهمية هذا الركن في ظل عدم إقرار قانون الحق في الحصول على المعلومات في فلسطين، خاصّة وأنّ معادلة اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ لن تستطيع التفاعل دون الحصول على شفافية المعلومات.
أما الركن الثالث فهو (الاستجابة)، وتعني قدرة ورغبة صناع القرار بتلبية احتياجات وأولويات المواطن التي تمّ طرحها من خلال اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ، ودون هذا الركن تبقى المساءلة المجتمعية ديكورا جميلا، لا ممارسة حقيقية. وتكتمل أركان المساءلة المجتمعية بركنها الرابع (الرقابة)، وهي عملية متابعة من قبل المواطنين والمؤسسات المختلفة لتحديد مدى استجابة صناع القرار، ومدى ردم الفجوات القائمة، وتصحيح الانحرافات، قبل وأثناء وبعد عملية اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ، وتشمل سلسلة إجراءات تَتّكِئ على منهجية علمية موضوعية، ويلعب الإعلام دورًا جوهرياً في تعزيز اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ، خاصّة في مجال الرقابة، إذ تشكل وسائل الإعلام المختلفة رافعة لرصد الأداء العام، وبخاصة في ظل الثورة المعلوماتية، وقدرة الإعلام على التواصل المستمر مع المواطنين وصنّاع القرار على حدّ سواء، والقدرة على اثارة أيّ قضية مجتمعية، بفضل مواقع التواصل الاجتماعي.
وختاما، فان اَلْمُسَاءَلَةُ اَلْمُجْتَمَعِيَّةُ ضرورة لكل من مُقدمي الخدمات ومتلقي الخدمات، لصنّاع القرار والمواطنين في فلسطين على حدٍ سواء، وهي رافعة لتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين، ومعول لهدم مخاطر الفساد، وانفاذها ضرورة وطنية ومجتمعية ملحّة في السياق الفلسطيني، خاصة مع شُح الموارد، وضرورة الانتقال لإدارة عامة تعتمد مبادئ الحكم الرشيد.