في دراسة أجراها مركز الأرض للأبحاث والدراسات بعنوان "الشباب الفلسطيني: المصير الوطني ومتطلبات التغيير" بداية عام 2016 والتي استهدفت البحث في مضمون ومؤشرات ما عرف "بانتفاضة السكاكين"، أشار جميل هلال الذي أشرف على تلك الدراسة، بمساعدة ستة من الباحثين، التي غطت التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل "مناطق 1948" في توطئته لهذه الدراسة إلى “أن تحولات مفصلية دخلت على الحركة السياسية الفلسطينية في العقود الثلاث الأخيرة، غيرَّت ليس في مكوناتها وعلاقاتها الداخلية فحسب، بل ومن فهمها لدورها ولحدود هذا الدور وأدواته، ثم دخل على المجتمع في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة ذاتها تحولات بنيوية ذات دلالات على صعيد بنية التنظيمات السياسية ودورها بوجه خاص والمجتمع المدني بوجه عام، وترافق هذا كله مع تسارع وتيرة إجراءات إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية والقمعية التي استهدفت تدمير مقومات قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وطنية عبر سلسلة من الإجراءات والسياسات التي هدفت إلى وضع الشعب الفلسطيني المقيم في الضفة والقطاع (وإلى حد ما المقيم في مناطق 1948) في منعزلات فرض نظام أبارتهايد (فصل عنصري)، بتعبير آخر، وصل مشروع إقامة دولة فلسطينية إلى طريق مسدود، وباتت الحركة السياسية الفلسطينية في مأزق مركّب".
لم يكن الهدف من ذلك البحث التدقيق في مدلولات الاشتباك اليومي، الذي بدأ بصورة منتظمة تقريباً بين شباب فلسطينيين في أكتوبر/ تشرين أول 2015، واستمر أشهراً ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، أو الدخول في تفصيلات التحولات المذكورة، بل كان يهدف إلى الإسهام في تقديم قراءة لمدى مضمون هذا الاشتباك ومدلولاته على المستقبل الفلسطيني، وعما إذا كان للشباب في حينه تصور عن بنية ومهام حركة سياسية جديدة، أم أنه كان موضع انتظار وتساؤل. وقد خلصت الدراسة إلى أنه ورغم نضج الظروف الموضوعية من حيث شراسة بطش الاحتلال لترسيخ ما يسميه بكي الوعي، وتخلي قوى الحركة الوطنية المهيمنة على المشهد عن دورها، إلا أن مدى نضج العامل الذاتي للاندفاع نحو بلورة حركة وطنية جديدة ظل محل تساؤل.
اليوم وبعد أكثر من ست سنوات على ما عرف "بانتفاضة السكاكين"، واتساع رقعة ما يجري من مواجهة راهنة، بما في ذلك المسلحة منها، فإن السؤال الذي يلح مجدداً؛ هو هل ما يجري يأتي في سياق مجرد الرد على عنجهية الاحتلال الذي ما زال عالقاً في وهم كي الوعي، واعتقاده أن بإمكانه الاستمرار في إغلاق الطريق على الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير وانتزاع حريته، دون أن يقاوم محتليه الذين يصادرون يومياً ليس فقط حريته، بل ومصادر رزقه وقدرته على البقاء، ولا يقدمون له سوى فرصة في سوق العمل الإسرائيلي؟ أم أن هذه المواجهة "الموجة الانتفاضية" ذات الطابع المسلح هي أيضاً ليست بمنأى عن تململ، بل ورفض فئات اجتماعية عريضة لما يجري من محاولات هندسة مستقبل "الحكم والنظام السياسي الفلسطيني"الذي يتقاسم السيطرة بين القوى المهيمنة على المشهد الانقسامي، وتعايشها مع سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية، واستمرار تخليها عن دورها ضد سياسات حكومة الاحتلال، والتي ليس في جعبتها سوى ما تسميه تسهيلات تضمن لها تكريس التبعية للاحتلال والمزيد من الارتباط بسوق العمل والاقتصاد الإسرائيليين؟
من الواضح أن السبب الجوهري الذي يقف خلف تلك "الموجات الانتفاضية"، والتي تجمع مؤسسات أمن الاحتلال هذه المرة على تسميتها "انتفاضة ثالثة"، هي نتاج طبيعي للأزمة المركبة التي تعيشها الحركة الوطنية، وجوهرها عدم رغبتها أو عدم قدرتها على الخروج من دائرة الفشل التي أوصلت نفسها إليها، فظلت عالقة فيها، وفي وحل الانقسام الذي أخرجها بالكامل عن مسار كونها حركة تحرر وطني، الأمر الذي شجع حكومة الاحتلال للاندفاع الذي يسابق الزمن، لإلحاق الهزيمة بالمشروع الوطني، وتكريس طابعها الكولونيالي العنصري الذي لا يريد الاعتراف بحقيقة الفلسطيني وبحقه في الحرية وتقرير المصير.
وهم إسرائيل بإمكانية كي وعي الشعب الفلسطيني ونزع إرادته بالحرية، في ظل غياب أي دور لقوى الانقسام المهيمنة على المشهد، شكل المفجر والصاعق "للموجة الانتفاضية" الجارية، والتي إن لم يجري التعامل الجدي مع جذورها من حيث ضرورة الاستجابة لحقوق الشعب الفلسطيني على الأقل كما عرفتها الشرعية الدولية، بدءاً بإنهاء الاحتلال، وليس انتهاءً بضرورة تمكينه من ممارسة حقه في تقرير مصيره، بما في ذلك تمكينه من اختيار قيادته بطريقة ديمقراطية لتعبر عن تطلعاته وتدافع عنها، لاستعادة أسس إمكانية التوصل لسلام حقيقي وعادل بين الشعبين وفقاً لقرارات الشرعية والقانون الدوليين، وما يتطلبه ذلك من مرحلة انتقالية تعيد للمؤسسات الوطنية الجامعة، بمشاركة الجميع بما في ذلك القوى الجديدة الناهضة والحراكات المدنية، في إطار المنظمة والسلطة، وبما يُمكن من اعادة الاعتبار للمنظمة كونها تشكل ائتلافاً وطنياً عريضاً، وانشاء حكومة وحدة انتقالية مهمتها توحيد البلد وتعزيز صمود الناس والتحضر لاجراء الانتخابات العامة الرئاسية والبرلمانية، فإن هذه الموجة قد تتواصل وتتطور، أو ستتجدد مرة تلو الأخرى، حتى تستكمل عوامل إعادة بناء حركة وطنية ذات طابع ديمقراطي تعددي في إطار جبهة وطنية متحدة تضع المواطن واحتياجاته في مركز وصدارة اهتمامها حتى تكون قادرة على المضي بمسيرة الحرية والديمقراطية حتى النهاية.