الحدث - خاص
في 28 سبتمبر 2022 اقتحمت قوات خاصة من جيش الاحتلال مخيم جنين شمال الضفة الغربية، ثم تبعها قوات إسناد كبيرة، والهدف كان اغتيال المقاومين عبد الرحمن خازم ومحمد براهمة، من مقاتلي كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، لتقع اشتباكات عنيفة في المخيم، أدت لاستشهاد 4 من مقاتلي الكتيبة، التي أصبحت تشكل ذروة العمل العسكري في الضفة الغربية، وكانت المبادرة الأولى فيه.
في 2005 أعلنت الفصائل الفلسطينية عن اتفاق تهدئة مع الاحتلال الإسرائيلي خلال لقاء موسع عقد في القاهرة بحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس. لكن هذا الاتفاق الذي كان المراد منه هو تمهيد الطريق إلى دمج المعارضة الفلسطينية في مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني الذي جاء بعد أوسلو، لم يكن مرضيا للمجموعات المسلحة التابعة للجهاد الإسلامي في الضفة الغربية، والتي كان يقودها الشهيد لؤي السعدي، فكان الرد عليه بعملية استشهادية في الداخل المحتل، تبنتها حركة الجهاد رسميا.
وظلت مجموعة "الشعراوية" كما كان يطلق عليها، تنشط في منطقة طولكرم وجنين، وتنفذ العمليات في الداخل المحتل وعمليات إطلاق نار في المستوطنات والشوارع القريبة، حتى تمكن الاحتلال من اغتيال واعتقال معظم من نشطوا فيها خلال سنة من انطلاق عملها، لكن ذلك لم ينه الوجود العسكري للجهاد الإسلامي في الضفة الغربية، وإنما تحوّل مخيم جنين إلى معقل مهم لذراع الحركة العسكري، وكان من أبرز الوجوه المعروفة في حينه الشهداء حسام جرادات وأشرف السعدي والقيادي وليد العبيدي.
ونشط الاحتلال أيضا لإنهاء هذه البؤرة التي تشكلت في مخيم جنين، لكن سرعان ما انتقلت إلى بلدة قباطية القريبة من جنين، وأصبحت البلدة معقلا مهما لمطاردي الجهاد الإسلامي، لكن هذه الحالة استمرت لأشهر قبل أن يتمكن الاحتلال من محاصرة الظاهرة، من خلال الاغتيالات التي طالت أبرز مسؤولي سرايا القدس في قباطية، بالإضافة لموجة الاعتقالات التي شهدتها البلدة.
إذن، بحلول العام 2009 كانت آخر المجموعات الظاهرة والمنظمة في الضفة الغربية قد انتهت، ولم تستطع حركة الجهاد الإسلامي أن تؤثر على استراتيجيات الفصائل في العمل العسكري في الضفة الغربية بالفترة التي تلت الانتفاضة الثانية، رغم محاولاتها على مدار 4 سنوات من انتهاء الانتفاضة، وقد ساهم الانقسام الفلسطيني في قدرة السلطة على بناء خطاب جديد يجرّم المقاومة تحت عناوين الفوضى والانقلاب والفلتان والأجندات، وكل هذه المفاهيم تم توظيفها في محاصرة أي تمدد فعلي للمجموعات المقاومة في الضفة الغربية، على اعتبار أن السلاح أصبح يهدد النظام السياسي الفلسطيني والاستقرار.
بعد عام 2009 انتهت ظاهرة المجموعات الكبيرة، وانتقل العمل العسكري إلى مرحلة المجموعات التي تديرها نفسها ذاتيا من خلال أدوات متاحة ذاتيا، أو من خلال دعم فصائلي، لكن هذه المجموعات لا تنتمي إلى تراتبية هرمية وتقوم بتنفيذ عمليات خاطفة بقرار ذاتي. كانت كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس هي من قادت هذا النوع من العمل، لكن عدم انتظام الظاهرة وقدرتها على إحداث تحول فارق في الضفة الغربية، فتح المجال أمام العمليات الفردية التي ينفذها فلسطينيون غير منضوين في إطار مجموعات مقاومة.
لكن المجموعات اللامركزية كانت مهمة في دراسة الحالة الأمنية في الضفة الغربية، ففرص نجاحها في التنفيذ فاقت فرص فشلها، لأن التنفيذ والتخطيط والإعداد لم يكن يحتاج إلى اتصالات ومشاورات والعودة لمرجعيات تنظيمية، لذلك كانت إمكانية الوصول لهذه المجموعات بشكل مسبق أمرا غير بسيط، وبناء على هذا الفهم وصلت الفصائل الفلسطينية إلى قناعة بأن العمل العسكري في الضفة الغربية يجب أن لا يكون مركزيا، سواء على مستوى الإدارة الداخلية أو الخارجية.
لكن إحدى السلبيات التي رافقت عمل هذه المجموعات هو عدم وجود حاضنة عسكرية أو مناطق شبه محصنة للانسحاب باتجاهها وبالتالي إطالة أمد عمرها المقاوم، ولذلك كانت هذه المجموعات عندما يتم اكتشافها يتم اعتقالها بسهولة، وهذا بدوره انعكس على شكل مخاوف لدى المقاومين المفترضين، وأصبح العمر الافتراضي خارج السجون لمنفذي العمليات لا يمكن أن يتجاوز الشهر، وهذه الفكرة ساهمت في تراجع هذا النوع من المجموعات وعدم تمدده، والفراغ الذي تركته المجموعات اللامركزية، حاول المقاومون الفرادى تعبئته.
في مايو 2021 خرجت مجموعة من المسلحين وتلت بيانا باسم حركة الجهاد الإسلامي في محافظة جنين. الشاب الذي تلى البيان هو الشهيد جميل العموري، وكانت رسالته واضحة إلى الضفة الغربية، لا تطلقوا الرصاص في الهواء، واشتبكوا مع جيش الاحتلال عند كل اقتحام، وهاجموا المستوطنين على الشوارع. بعد هذا البيان الذي ألقي في مخيم جنين، بدأت مرحلة جديدة من الاشتباك مع الاحتلال، تركزت في البداية في جنين ومخيمها، وقاد الاشتباكات جميل العموري، الذي خشي الاحتلال أن يتحول إلى ملهم للشباب، فقام باغتياله في يونيو 2021، أي بعد حوالي شهر من إلقائه البيان، وقد استشهد في عملية الاغتيال ثلاثة من عناصر الاستخبارات العسكرية الفلسطينية.
كان استشهاد جميل العموري بمثابة التحول الأهم في الضفة الغربية، تشكلت بعد استشهاده مجموعة عرفت باسم "مجموعة الشهيد جميل العموري" والتي كانت تضم أصدقاءه وأفراد مجموعته. لكن بعد هروب الأسرى الستة من سجون الاحتلال في سبتمبر 2021، تم الإعلان رسميا عن انطلاق كتيبة جنين، كمجموعة عسكرية تعمل في إطار سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، مهمتها الأولى كانت تأمين الحماية للأسرى الذين تمكنوا من الهروب من سجون الاحتلال في حال وصلوا إلى مدينة جنين.
الاعتراف الأول من قبل الاحتلال بتأثير الكتيبة، جاء بعد اعتقال الأسيرين مناضل نفيعات وأيهم كممجي، وهما من محرري جلبوع، فقد أكدت مصادر أمنية إسرائيلية أنه جرى انتظار خروجهما من مخيم جنين ليتم اعتقالهما، لأن التقدير كان بأن اقتحام المخيم لن يكون سهلا بل وسيؤدي إلى سقوط قتلى وجرحى من الجنود، وشهداء من الفلسطينيين، ودق هذا الاعتراف ناقوس الخطر لدى الصحافة الإسرائيلية التي بدأت تولي اهتماما كبيرا بالمقاومة الفلسطينية في جنين وتحديدا في كتيبتها.
لكن الأمور لم تبقَ عند كتيبة جنين، فقد تشكلت مجموعات غالبية عناصرها من حركة فتح، بمسميات جديدة، مثل كتائب شهداء الأقصى لواء الشهداء. وإن كانت هذه المجموعات أقل حجما وحضورا من كتيبة جنين، إلا أنها أصبحت فاعلة في التصدي لقوات الاحتلال، بل ونفذت عمليات خارج إطار مخيم جنين، واتسمت عملياتها بالمبادرة، وتمكنت من بناء شبكة علاقات مع عناصر الجهاد الإسلامي والفصائل الأخرى.
أمام هذه الحالة الجديدة، استخدمت "إسرائيل" أكثر من أسلوب للقضاء عليها. الأول، تمثل بالاقتحامات اليومية ونشر القناصة وإيقاع أكبر عدد ممكن من الشهداء أو الجرحى أو الأسرى في صفوف المقاومين في مخيم جنين. لكن هذا التكتيك أصبح خطيرا بالنسبة للإسرائيليين في اتجاهين: الأول، أن مخابرات الاحتلال أرجعت العمليات التي وقعت بالداخل المحتل في مارس وأبريل ومايو إلى تأثر المنفذين بالمشاهد التي رافقت الاقتحامات والاغتيالات. الثاني، هو أن العمليات المتكررة، تعني فرص متكررة لسقوط قتلى في صفوف جيش الاحتلال.
في مرحلة تالية، تولت السلطة الفلسطينية محاولة السيطرة على تصاعد العمل المقاوم لكتيبة جنين، وقد بدأت بحملة اعتقالات ضد أبرز مطاردي الكتيبة، وجرى نقلهم إلى مراكز التحقيق في أريحا، ولكن هذا الأسلوب أيضا لم ينجح، فلجأت إلى مبدأ المساومة، وطرح العروض على المطاردين لتسليم أسلحتهم مقابل عدم ملاحقتهم من قبل جيش الاحتلال، وهذا الأسلوب أيضا لم ينجح، فعادت "إسرائيل" إلى الواجهة من جديد.
الخيارات الإسرائيلية فيما يتعلق بمخيم جنين تبدو ضيقة، فهناك خشية من أن عملية واسعة بالمخيم قد تؤدي إلى امتداد وتوسع حالة المقاومة إلى كل الضفة الغربية وانطلاق شرارة الانتفاضة، وقد تدخل غزة أيضا على خط المواجهة، بالإضافة إلى أن عملية مثل هذه قد تؤدي لسقوط قتلى وإصابات في صفوف جيش الاحتلال بدون ضمان نتائج مؤكدة لنجاحها. لذلك، تتمسك "إسرائيل" حتى اللحظة بخيار العمليات الخاطفة، والاستنزاف، والذي لا يبدو أن سينجح على المدى البعيد، وقد تصل "إسرائيل" لطريق مسدود.
بناء على ما سبق، تتجه معظم التقديرات إلى فكرة أن المقاومة بشكلها الجديد، الكتائب، تتجه إلى التوسع، وهذه الظاهرة تجمع بين المركزية واللامركزية، وبين المبادرة والدفاع، وكأنها نموذج مبتكر كاستخلاص للعبر من كل تجارب المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، وكشكل جديد حتى الآن أثبت نجاحه في تخطي أخطاء الأشكال الأخرى، لكنه بحاجة إلى إعادة تقييم مستمر، واستخلاص سريع للعبر، حتى لا يفنى، ولذلك من المهم التأكيد على فكرة المراجعات المباشرة والاستنتاجات قصيرة الأمد.