السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

اغتيال نفس الشهيد ومتلازمة الذاكرة الزائفة

2022-10-04 01:45:34 PM
اغتيال نفس الشهيد ومتلازمة الذاكرة الزائفة
رولا سرحان

​هل يتكرر اغتيال نفس الشهيد؟ تبدو فكرة اغتيال نفس الشهيد غريبة. لكن، ألا نشعرُ بأن الشهيد هو نفسه الذي يستشهدُ في كل مرة، بحيث تبدو الأخبار التي نتلقاها كل يوم عن ارتقاء شهيدٍ جديد ما هي إلا خبرٌ عن نفس الشهيد الذي سبقُهُ في تكرار لا يتوقف في حيز يتناتج فيه الشهيد في علاقة يومية معنا؟ ليس المقصود بالتكرار هنا لصقُ قيمة سالبة أو سلبية بـ الفاعل/ الشهيد وبـ الفعل/ الشهادة، وإنما إضفاء قيمة التكثيف، أي تكثيف لموت الكثيرين في موتِ الواحد، كما صاغ جيل أنيجار العلاقة ما بين الموت والأعداد في مقال له في ذكرى أحداث 11- 9- 2021. بحيثُ يُصبِحُ الموت هنا يساوي الرقم (0، صفر)، لأنه علاقةُ طرح ونقصان، فيما الميت يساوي الرقم (1، واحد)، والذي يحملُ معنى الزيادة، لتصبحُ كل الأعداد موحدة في الواحد، بما هو معبر عن قيمتها كلها. أوليس الشهيدُ صيغةَ جمعٍ، وصيغةَ تكثيف، بل وصيغةَ وحدة؟ ألا يختلفُ الفلسطينيون وينقسمون في وعلى كل شيء، ويتوحدون حول فكرة الشهيد والشهادة ويتنافسون في تبني أو نسبة الشهيد إلى حزب وفصيل وإلى مجموعهم إجمالاً بما هو مصدرُ فخرٍ واعتزاز وقيمة بطولة؟ ألا ينفي الشهيد عن الموت بشاعتهُ، ويسلبُ قيمةَ الخوفِ منه، يُفرِغُه من كل صفاته، فيُصبِحُ الموتُ قيمةً فارغةً قابلة للملء بالمعنى الذي يريدُ الشهيدُ أن يملأها به؟ هل سألنا الشهيدَ بعد الشهادةِ ما الذي يعنيهِ له الموت؟ هل يُمكنُ أن نتخيل إجابة الشهيد في وصفهِ للموت؟ سيصبِحُ الموت (0، صفراً) لا بمعنى الطرح والنقصان، أو بملء المكان بالفراغ، وإنما بملء الموت بالفراغ. إذ يُصبِحُ الموتُ فارغاً من المقدرة على الانتقاص والطرح ومليئاً رغماً عنه بالزيادة، لأن هنالك من يقول للموت: "سيعود المضيفُ بعد قليل" مثلما وثقت خوارزميات فيسبوك بطريقة آلية، لكن في مفارقة بلاغية، حادثة استشهاد محمد سباعنة وهو يوثق هدم منزل الشهيد رعد خازم. بحيثُ تبدو العلاقة ما بين كلمتي "الموت، المضيف" علاقة تضاد، لكنها في الحالة الفلسطينية تُصبِحُ علاقة تعريف وانتساب.

تحملُ كلمةُ "المضيف" في دلالاتها اللغوية ما يصيغُ ماضي وحاضر العلاقة ما بين ساكن المكان والضيف فيه، فـ"المضيفُ" هو من استقبل وأنزل عنده ضيفاً. هكذا استقبَل الفلسطينيون "اليهود" القادمين من أوروباً، باعتبارهم ضيوفاً، "يهوداً" لا صهاينة، إلى أن تكشفت حقيقةُ المشروع الصهيوني، وبدأ يفهم الفلسطيني أن عليه أن يُميِّز ما بين "اليهودي" باعتباره جزءاً من المكون الهوياتي الفلسطيني، وما بين الصهيوني بما هو نقيض هذه الهوية. عندها تحوّل "المضيفُ" إلى اسم فاعل من "أضاف" بحاضرِه "يُضيفُ". بحيثُ أصبحت هذه الهويةُ تُضيفُ إلى نفسها ما يُعرِفها أكثر نتيجة تفاعلها مع واقعها الذي تعيشُه، إذ عليها أن تُضيف وباستمرار ما يُثبِتُ حضورها في وجه النفي من الماضي، والنفي في الحاضر، والنفي القادم من المستقبل. فيُعرّف الفلسطيني نفسه أولاً بما هو ثابتٌ من ماضيه، وهو فلسطينيته التي لا تحديد فيها، والتي هي مفتوحة على المطلق ودون اختصار أو اختزال. وكلما جاء ما يُنقِصُ هذا الماضي أو يختزِلُه، يضيفُ الفلسطيني جزءاً معززاً آخر إلى فلسطينيته من حاضرِ هويته، فيعزز ماضيه بأنه فلسطيني لاجئ، أو فلسطيني نازحٌ أو منفي أو مطاردٌ أو محاصرٌ أو أسيرٌ أو شهيد. ويضيفُ إلى المستقبل ما ينفي عنه أي احتمالية للنقصان، فيُفعِلُ هويته عبر التذكر والنسيان استناداً إلى قاعدة النفي والحضور. ولأن أعلى قيمةٍ في هويته، هي القيمة القادرةُ على التكثيف بأعلى صيغها الدلالية والزمانية، وهي الشهادة/ الموت، تُصبِحُ هي الأنا العليا عند الفلسطيني، التي تتعامل مع الواقع الخارجي، بوعي أخلاقي داخلي بانزياحٍ نحو المستقبل. ألا يستشهدُ الشهيد وعينُهُ على المستقبل؟

علاقةُ الشهيدِ بالمستقبل تبدو غريبةً، لكن غرابتها مفهومة، لأن ما من أحدٍ يرغبُ أن ينظر إلى موته أو استشهاده باعتباره نهائياً أو ثابتاً، لذلك يتم اللجوء إلى تحريك الموت. وعمليةُ تحريك الموت لها صورٌ عدة، فأحياناً نحركهُ عبر الإيمان بالحياة بعد الموت، كما فعل الفراعنة ببنائهم الأهرامات كعتبة انتقال ما بين حياتين؛ وأحيانا نحرك الموت عبر ممارسات تذكرية بأن الميت خالدٌ ذكرى حاضرة لا تنسى؛ وفي أحيانٍ أخرى نحرك الموت بأن نغيِّر شكله فلا يُصبح مرحلةً أو حالةً بل يُصبحُ علاقةً. وقد تكون هذه العلاقة مع الزمن، بحيث يتم إلغاء فكرة تسلسله وتتابعه الخطي، فلا يعود الزمن ثلاثياً مقسماً على الماضي والحاضر والمستقبل، بل يصبحُ وحدة واحدة، لأن الموت في الماضي مثل الموت في الحاضر مثل الموتِ في المستقبل، فالموتُ موتٌ في كل الأزمنة، وبالتالي قيمةُ الزمن هنا ثابتة داخل كتلة زمنية واحدة. أما المختلفُ هنا فهي قيمةُ الموت في علاقته بالزمن، أي بالإرث الذي يتركه الموتُ داخل الزمن، أي قيمةُ الموتِ ومعناه.

وقيمةُ الموت ومعناه تؤسس أيضاً للتفكير في الموت بأنه علاقة بين اثنين أو علاقة بالمكان. ويكثف محمود درويش هذه العلاقة بين الموت وطرفٍ قاتل وطرفٍ مقتول وبين المكان، وأيضا مع الزمان، في حواره مع المجندة التي سألته: ألم أقتلك؟، فيجيبها: بلى... قتلتني... ونسيتُ، مثلك، أن أموت!". إذ يتحرك الموت هنا ولا يُصبِحُ نهائياً أو ثابتاً، وهو واضحٌ في استغراب المجندة من عدم الموتِ رغم القتل مع سبقِ الإصرار والترصد، ومن تأكيد درويش أنه نسي أن يموت مثله مثل المجندة التي من المفترض أنها ماتت هي الأخرى، ولكنها ما زالت حية. هنا، ينتفي عن الموتُ ثباتُه كحالة، والتصاقهُ بشخصٍ متعين واحد، فلا يتم تحديدُ الموت بموتٍ هذا الشخص على وجه التحديد بل بموت ما يُمثلهُ هذا الشخص وبمن يمُثله. فيصبح مَن مات ومن يموت، ومَن القاتل ومَن القتيل، تكثيفٌ لقيمة ولمعنى وتكثيف لهوية المجموعة التي يُحدد الموت علاقتها بمجموعةٍ أخرى.

أما مَن يموت وينسى أن يموت فهي أيضاً علاقةٌ مرتبطةٌ بالزمن عبر التذكر والنسيان ولكنها تحيل في نفس الوقت إلى علاقة مع المكان. فيجتمع الموت كعلاقة مثلثة - وتلك هي بلاغة درويش الفذة- بين الموت والمكان والزمان. إذ لكي تفهم هذه العلاقة المستمرة في دورانها حول من مات ولماذا لم يمت، يجب أن تفهم في سياق المكان المليء بالموت حد أن ينسى الميتُ أنه مات. ولكن كيف يمكنُ للميتِ أن ينسى أنه مات؟

 يقف حوار الذاكرة والنسيان ما بين درويش والمجندة، على قاعد التقابل والتناقض ما بين نمطين من الذاكرة: الذاكرة الزائفة- كما عرفها "فرويد" و"جانيت"- والذاكرة الأصلانية، وعلاقة الاثنتين بتشكيل هويتين ناقضتين لـبعضهما ومتناقضتين مع بعضهما. ولتقف ثنائية القتل/ الموت كعلامةٍ فارقةٍ في تحديد الهوية، بينما تكون الذاكرةُ، بنمطيها، مسرح الاشتباك بينهما. لكن، كيف ينسى القاتلُ أنه قتل القتيل؟ أو كيف يتذكر أنه لم يقتله؟ وكيف ينسى من مات أنه مات؟ لا يُمكنُ تفسيرُ نسيان القتل فالقاتلُ لا ينسى أنه قتل، إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهو افتراضُ أنه أنهى مهمة القتلِ تماماً، فلا تعودُ حاضرةً في حاضره بل جزءاً من ماضيه، والتي مع تقادمها في ذاكرته تقعُ في النسيان، ومع ذلك يظل احتمالاً مشكوكاً في تحققه تماماً. وانتهاء مهمة القتل هنا لا تعني مجرد التوقف عن القتل الفعلي المادي، وإنما قتلٌ لفكرة، فكرة وجود الفلسطيني، وهي فكرة تأسيسية في العقيدة الصهيونية، لكنها مرتبطة في علم النفس ودراسات الذاكرة بالذاكرة الزائفة ومتلازمتها. بحيث أنها تقوم بالأساس على الإسناد الخاطئ للمصدر الأصلي للمعلومات. إذ تتداخل المعرفة الحالية والذكريات مع تكوين ذاكرة جديدة، مما يتسبب في أن يكون فعل التذكر خاطئًا تمامًا.

وهو ما حدث مع المجندة، إذ إن المعرفة المتحصلة من واقع المكان وحاله، يكشفُ لها عن ذاكرة زائفة، أن مهمة القتل، قتل الوجود الفلسطيني، المفترض انتهاؤها، لم تكتمل، لأن درويش/ الفلسطيني مازال يتجول في المكان بل ويؤسس لافتراض أن الميت هو الآخر- المجندة. وكذلك، يفسرُ كيف أن من مات لم يمت، أي بنفس الطريقة. لأن موت الفلسطيني ونسيانُه أنه قد مات يعني أن مهمة الموت بالنسبة لـ درويش/ الفلسطيني لم تكتمل بعد، وأنه يموت وينسى أنه مات، ليتذكر أن عليه أن يموت فيموت وينسى أنه مات وهكذا. إذ لا يبدو الموت هنا مجرد حالة فيزيائية، وإنما يبدو كإمكانيةٍ خاضعة للاختيار والاختبار والإرادة؛ أن يختار الأصلاني متى يموت، أو لا يموت رغم الموت، بنسيان التغييب عبر الموت والإصرار بالحضور عبر الموت.

وذلك هو نقاش الموت على مسرح الذاكرة الزائفة والذاكرة الأصلانية.