يقول أحد الصحافيين البريطانيين:-
في كل مرة كنت أخطئ في تقديري لخطوات الرئيس بوتين، فقد اعتقدت عام 2014 بأنه لن يحتل "القرم"! وقد أخطأت!... وأقول الآن، بأن "بوتين" لن يستخدم السلاح النووي!.
والحقيقة أن العالم كله، بات خائفا من طريقة تفكير صاحبنا البريطاني.
وقد يطول الحديث بنا عن أسباب وحيثيات وتفاصيل وتاريخ الأزمة بين الإخوة الأعداء (روسيا وأوكرانيا)، حتى وصل الأمر إلى التدخل العسكري الذي يسميه "الروس" بالعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، التي لا تستدعي إعلان التعبئة العامة أو إعلان حالة طوارئ في روسيا. تلك العملية التي أسماها الغرب "الحرب على أوكرانيا".
إلا أن ما يهمنا الآن، هو ماذا سيجري بعد ذلك؟ وإلى أين يسير العالم؟ وما هي السيناريوهات التي قد تؤدي إلى نهاية هذه الحرب؟ وهل هي نهاية عالم القطب الواحد وبداية عالم متعدد الأقطاب؟ أم هي نهاية كل شيء؟
قد يكون سيناريو "حرب الاستنزاف" (الاقتصادية والعسكرية) على روسيا هو الأكثر مناسبا لأميركا ولكنه الأكثر ضررا وكارثيا، على أوروبا، وذلك بعد تدحرج اليورو أمام الدولار وتسريح مئات الآلاف من العمال والموظفين، والتهديدات بإغلاق أكثر من نصف المصانع في أوروبا، بعد الارتفاع الجنوني في "كل الأسعار" بسبب ارتفاع أسعار الغاز والنفط، الذي توقف استيراده من روسيا مما يجعل اعتماد القارة العجوز على الغاز والنفط الأميركي في ظل عدم وجود أي "شارل ديغول" في أوروبا كلها.
ولأن الغاز والنفط الروسي، وجدا شركاءَ لهما في الصين والهند والسند، فإن التأثير الاقتصادي على روسيا لن يكون مدمرا "لروسيا البوتينية" مثلما كان سببا مباشرا في انهيار الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك، لا تستطيع روسيا أن تبقى في حالة حرب واستنزاف لسنوات طوال وإن كان الحديث يدور عن شتاء صعب آخر، غير شتاء هذا العام!
وقد تكون التحالفات السياسية والعسكرية الروسية التي نجح "بوتين" بتأسيسها مثل (منظمة بركس ومنظمة شنجهاي ومنظمة أسيان)، قد خففت من تأثير العقوبات التي كان يحسب الرجل حساباتها منذ أن وصل الرجل سدة الحكم، إضافة إلى تحالفاته المنفردة مع دول عديدة ومؤثرة في القارات الخمس. أي أن روسيا كانت تنشئ (تحالفات بيضاء، للأيام السوداء). وهو ما جعل تأثير العقوبات الاقتصادية على روسيا، التي وصلت إلى 12 ألف عقوبة! ذات تأثير أضعف بكثير مما خطط له، حتى إن "الروبل" لم يشهد انتعاشا في تاريخه وسط العملات العالمية كما يشهده الآن، بالرغم من أن الرئيس الأميركي "جو بايدن" كان قد صرح في اليوم الثاني من اندلاع الأزمة الأوكرانية، بأنه سيجعل الدولار الواحد مساويا ل (200) روبل!
وقد يكون الاحتمال الأقل ترجيحا هو استخدام الأسلحة النووية، التي لن يتردد "الروس" أبدا في استخدامها وتدمير العالم فوق رؤوسنا ورؤسهم طبعا… إن هم "حشروا" في الزاوية. والحقيقة أن بوتين وفي رده مرة على سؤال، كيف ترى العالم بدون روسيا؟... فقد جاء رده الفوري:-
لا ضرورة لعالم بدون روسيا!
لذلك فإن المراقب أو العارف بما شهده وعاشه الشعب الروسي، من ذل وضياع ومهانة في الحقبتين (الجاربتشوفية واليلتسينية) في تسعينات القرن الماضي، يعلم تماما بأن القيادة الوطنية الروسية الحالية لن تسمح لنفسها ولشعبها بالعودة إلى تلك السنوات "المذلة" مهما كانت الصعاب والنتائج أمامها! وهي قد أعدت العدة "العسكرية والاقتصادية" لهذا اليوم، منذ أن استلم "بوتين ورجالاته الوطنيين، مقاليد السلطة في البلاد، مع بداية أول يوم من القرن 21!
أما "نظرية" النصر العسكري الأوكراني، واسترداد القرم والأقاليم الأخرى، وهزيمة الجيش الروسي، فهي كلام ونقاشات تدور للاستهلاك المحلي الأوكراني. فالكل يعلم أن ما يجري على الساحة الأوكرانية هو "حرب عالمية" تجري على الساحة الأوكرانية. وإلا فماذا تسمى مشاركة أكثر من 41 دولة بشكل مباشر في دعم كييف وإمدادها بالسلاح والمال والعتاد والرجال؟
ومع ذلك، فباعتقادي، إن أميركا لا يمكنها أن تشن حربا عالمية، ستفني نفسها وتفني خصمها الروسي وتفني العالم كله، من أجل أوكرانيا. وقد يكون ذلك ممكنا لو أن "الحرب"، أو "العملية الروسية الخاصة" كانت تستهدف بريطانيا أو فرنسا أو غيرها من الدول التي تهم الولايات المتحدة الأميركية من الدرجة الأولى. بعكس روسيا التي لن تسمح بجعل أوكرانيا نووية أو عضوا في حلف الناتو حتى لو اقتضى الأمر لفناء العالم كله.
أي أن روسيا سوف تشعل حربا عالمية من أجل أوكرانيا، التي لن تشعلها أميركا من أجلها.
وقد علمنا التاريخ أن القوات الأميركية غادرت العراق قبل أن تغادرها قوات الناتو كلها، وحتى قبل مغادرة القوات والدبابات الأوكرانية، التي جاءت للقتال تطوعا. كما أن الطائرات الأميركية غادرت مطار كابول بعد أن رمت أجنحتها الأفغان في الهواء. وحتى "شاه إيران"، الخادم السابق والمخلص لأميركا والناتو، لم يستطع تكملة علاجه في أي من الولايات. وكل ذلك، يذكرنا ذلك بمقولة الرئيس المصري الراحل "حسني مبارك" حين قال:-
-اللي متغطي بالأمريكان......عريان.
ولأن الروس لم يفصحوا يوما عن أهداف عمليتهم العسكرية الخاصة، فقد أصبح تقييم إنجازاتهم العسكرية، أمرا خاصا بهم، أي أن علامات النصر ومقاييسه هي الأكثر جدلا الآن بين السياسيين والعسكريين سواء في موسكو وبكين أو حتى عند قادة الناتو. وهو ما يعني، أن هناك نصرا عسكريا خطط له ولا جدال فيه سواء كان نصرا 100%، أو 80%، بغض النظر أيضا عن نتائج وتفاصيل عمليات واختراقات عسكرية هنا وهناك.
ومع دخول الأزمة الأوكرانية مرحلتها الجدية الثانية، أصبح العالم أمام خارطة جيوسياسية جديدة، وذلك بعد أن صادق البرلمان الروسي (100%) على ضم الأقاليم الأوكرانية الأربعة ذات الغالبية السكانية الساحقة من الروس، الذين ظلوا منذ العام 2014 في حالة حرب غير متكافئة مع "دولتهم الأوكرانية". والغريب أن العالم "الديمقراطي" لم يعترف عام 2014 بنتائج الاستفتاءات التي جرت في تلك الجمهوريات حين كانتا تحت "الحكم الأوكراني"، أي قبل 8 سنوات من التدخل العسكري الروسي. ولو أن الغرب التزم بالمعايير السياسية والأخلاقية ومبادئ القانون الدولي التي طالما يرفع شعاراتها، لما وصل الحال في أوكرانيا، (أو في غيرها من مناطق العالم كله بما فيها فلسطين)، إلى ما هو عليه الآن.
الغريب أن العالم "الديمقراطي"، صادق وأثنى وشجع وصفق على نشوب ونتائج "حرب الأيام الستة" التي شنتها إسرائيل عام 1967 بحجة الدفاع عن النفس، لا بل حتى ورغم كل القوانين الدولية، لا زال الغرب ساكتا عما تقوم به إسرائيل حتى اليوم من ضم للأراضي الفلسطينية رغم كل المخالفات القانونية، ومع ذلك فهو يشارك الآن بكل ما أوتي من قوة وجبروت في حرب "حرب عالمية"، بحجة... رفض العدوان على أوكرانيا، وضم أراضي الدونباس وخيرسون وبحجة أن الاستفتاء غير قانوني جرى تحت احتلال الروسي.
ويأتي السؤال في رأس كل فلسطيني:-
هل سيرضى المجتمع الدولي، بنتائج استفتاءِ للشعب الفلسطيني، بإشراف دولي، (ونحن تحت الاحتلال الإسرائيلي) ؟
-وهل سيقوم العالم بعدها بفرض عقوبة واحدة "فقط" ضد إسرائيل؟
وهل سترسل دول العالم العدة والعتاد للشعب المحتل أسوة بالشعب الأوكراني لتحرير بلده؟
وهل وهل.......
ويبقى السؤال إلى أين؟
باعتقادي أن الأسابيع والأشهر القادمة، (بعد وصول ال 300 ألف جندي روسي) إلى ساحة المعارك قد تجعل سير المعارك في كل أوكرانيا أكثر دموية، ووضوحا لما قد يحدث من خطوات ونتائج.
لذلك فقد يكون السيناريو الأكثر عمليا، هو تبديل القيادة الأوكرانية، بقيادة جديدة تقوم على المصالحة مع الشروط الروسية وذلك بعد أن يتم استنزاف الدب الروسي للتحضر لمعركة أخرى ضد روسيا، ولو بعد سنوات.