أظنها من بين أجمل العبارات الملهمة مجازيا، التي ولجت منذ عهد ليس بالبعيد جدا، قاموس لغة تخاطبنا اليومي، فأضحى المتكلمون يسرعون إلى تداولها بنوع من السلوى والأسى والحنين والاطمئنان والعذوبة واللذة والاسترخاء النفسي.
جملة بسيطة للغاية، يقارب سريان مفعولها أقوى وصفات المهدِّئات الطبية، ما دامت تنطوي على تشخيص ترياق عجيب ومذهل، من خلال إيحاءاتها النفسية العديدة، فتبعث روحا جديدة لدى أشخاص، أرهقهم حمق الحاضر وأتعبتهم كثيرا مآرب الراهن. إنها متنفس، رحيم للغاية، يضفي انتعاشة جديدة على مجرى حياة متآكلة.
فورا، تكتسي مقولة الزمن الجميل أبعادها النفسية الإيجابية، سيأخذ الزمن معها بعدا واحدا ووحيدا؛ يكمن في لحظة الماضي دون باقي الأبعاد الأخرى. ماض لن يكون قط استعاديا بالخيال سوى جميلا، مع أن تحققات الزمان عالقة واقعيا ضمن حالات متباينة. زمن، ينتقل من مستواه الفيزيائي، فيغدو أولا وأخيرا، محض حالة نفسية. لكل أمة زمنها الذي لا يقبل المحو. لكل جيل زمنه الأمثل. لكل فرد زمنه النموذجي.
عموما، بالنسبة لسياقات القرن العشرين، هناك شبه اتفاق بأنَّ أفضل سنوات حياة البشرية حسب معاني الزمن الجميل؛ أي إحساس الإنسان بكونه مركزا فعليا يسكن قلب العالم، ينحدر منه وينتمي إليه، تحيل تحديدا على عقدي الستينات والسبعينات. فترة ازدهار على جميع المستويات، ارتقى صوبها العالم خلف أمريكا أوروبا، مرحلة بناء جديدة اهتدت به نوعيا خارج الحتميات المدمرة للحرب العالمية الثانية. هكذا، توارى زمن الحرب بعيدا، وكذا إمكانية تكرار ذات الأمر مستقبلا.
كان درس الحرب قاسيا جدا، فظيعا للغاية ماديا ومعنويا، وستدوم آثار نتائجه لفترات طويلة. تعضد هذا الشعور السلبي نحو عبثية تدمير السياسيين للجميل، بالنسبة لجيل تلك الفترة نتيجة اندلاع نزاع إقليمي غير متوقع، أقصد الحرب اللامتكافئة والمعزولة في منطقة الهند الصينية بين أمريكا وفيتنام، فاحتشدت تظاهرات عارمة للمحتجين تجوب دون توقف مختلف العواصم الكبرى، تنديدا بالهمجية الأمريكية والدعوة في المقابل إلى تعميم شعار ممارسة الحب بدل الحرب.
إذن، يتفق التأويل الشائع، على أنَّ مساحة الزمن الجميل ضمن مجالها الأكثر افتراضا، نسجت أولى خيوطها حقبة الستينات، بحسها الثوري على جميع المستويات وطبيعة الروح المتوثِّبة نحو بناء مجتمعات تتسع بسخاء لأحلام الشعوب بعد تحقيقها للاستقلال وإخراج المستعمرين من بلدانها، ثم تجلت أكثر فأكثر تداعياتها البنَّاءة بعد الثورة الطلابية الشاملة لعام 1968، وتواصلت ربما الأحلام الكبرى التي تؤرخ للزمن المتطلع بتفاؤل وجدية صوب المستقبل،غاية قطيعة الصدمة النفسية العميقة لسنة 1990، مع اندلاع حرب الخليج الثانية؛ ذات المنحى الكوني بين العراق وقوى التحالف الغربي.
منذئذ، انطلق العد العكسي لاندحار المنظومة الدولية نحو الدرك الأسفل، ومعطيات الجحيم التي تكابدها الإنسانية حاليا جراء ترسخ أسباب الانهيار، مجرد تشخيص لا لبس معه، لتبعات تلك الحلقة الجهنمية، وقد انتقلت العلاقات الدولية من توازن القطبين بجانب الفاعلية الديناميكية لحركة عدم الانحياز وإشعاع مبادئ الثقافة السياسية التي بلورتها واقعيا، ثم النضال المسلح لحركات التحرر التقدمية على امتداد الجغرافيات قصد تقويض لاإنسانية المنظومات الاستعمارية بمختلف أشكالها.
إذن، بعد حرائق بغداد وقبلها بقليل التواتر السريع للتغيرات التي وقعت في أوروبا الشرقية، بات العالم كله مجرد ولاية أخرى، تحت وصاية البيت الأبيض، فانتقلت المنظومة جملة وتفصيلا من زمن جميل إلى آخر غير جميل بتاتا، قوامه شيوع فنون الإرهاب واستتباب جنون العنف المؤسَّس في شقيه المادي والرمزي، ثم عولمة إدمان الاستهلاك والعبودية وفق مناحيها الجديدة لترسيخ الليبرالية المتوحشة. وضع تعاضدت نقلته الجذرية، ضمن الإطار نفسه، مع تأصيل مقومات المنظومة الرقمية، حسب مرجعياتها التي غيرت بكيفية درامية كما يظهر حاليا علاقة الإنسان مع ذاته والآخر والعالم، بغض النظر عن الجوانب الإيجابية للأفق السيبراني.
ما معنى كان الزمن جميلا، قبل عقد التسعينات؟ أساسا فترة السبعينات التي تعتبرها أدبيات التأويل السائدة، كأفضل حقب هذا العصر، ربما لتوفر عنصرين أساسيين: الأمان ثم الأمل. واقع آمن غير متوتِّر. مستقبل مثير يبعث على الشغف.
لقد بدأت نتائج النظام السوسيو-اقتصادي لما بعد الحرب العالمية الثانية، تثمر حصيلتها المباشرة على أرض الواقع، مما أنعش التطلع نحو مستقبل طوباوي، بعيدا عن مآسي الحرب التي أنهكت البشرية، رغم كونها من ناحية ثانية، أمدتها بسبيل شاق كي تطهِّر دواخلها، فالحرب وإن مثلت تجربة قاسية بكل المقاييس، تشكِّل أيضا ولادة أخرى بين الألم والدماء قصد إعادة تقويم التراكمات، بتجاوز المساوئ وترسيخ السعي الإنساني.
عموما، وجوديا جل ما مضى وانقضى ثم تحول إلى ذاكرة، بالنسبة للإنسان، يندرج ضمن النوستالجيا والأفضل، ما دام يضمر مختلف معاني الثبات والتجلي، وانتفاء المبهم واندثار المجهول.
الزمان الجميل، ذاكرة الفرد المكتملة ومأوى طفولته الرحيمة، حيث دلالات الطمأنينة والانسجام وغلبة الفطري والاستقرار والسكينة والتطلع. الحاضر مضجر، والمستقبل هلامي. لذلك، يجسد المنقضي ينبوعا للحبور والوصل.
كل شيء بدا جميلا خلال الأزمنة السالفة، لأنها قياسا لما يعيشه الفرد إبان راهنه، صارت عارية ومكشوفة أبانت عن مختلف ممكناتها، لم تعد تنطوي عن أيِّ سر عالق ومحتمل.
المجهول عدو أولي للإنسان، يفزعه ويبعث لديه الخوف والفزع والارتياب، إنه الموت ببساطة، بما أن الأخيرة تتربص مستقبلا بمصير كل واحد منا، والترقب ينطوي على اللاطمأنينة.
بالتأكيد، القيم التي ترعرع وفقها أجيال ماقبل عوالم الرقمي، اتسمت بكونها أقرب إلى الكينونة الآدمية وتحفيزا مباشرا للحس الإنساني. مقارنة مع ما نعيشه حاليا، فقد ازداد الواقع اغترابا مع هيمنة الذكاء الاصطناعي. تميز المنحى الأول، بتآلفه مع الحس الإنساني، ما دام يعكس هويته الحقيقية بكل تفاصيلها ودقائقها، بحيث عاش الإنسان سياقا منتميا إليه وامتدادا له. أما بخصوص المنحى الثاني، فقد تقوَّضت تلك الهوية الأصيلة ثم ازدادت الهوة اتساعا، بحكم تراكم معطيات الفجوة نتيجة استفحال الوسائط بين الإنسان ومحيطه الطبيعي.
حينما يثقل الواقع على كاهلي، أستعين بفتوة الذاكرة، أنتشل ذاتي كلية من ثقل الآني، كي أحلق ناحية فترات أخرى، تجلى معها هذا الواقع نفسه، ضمن بعده المجرد، في نهاية المطاف، عذبا ومشوقا، يبعث بحوافز عدة حب التطلع نحو استكشافه.
أقول حينها: يا ليت الزمان! يا حسرة على الذي مضى! لماذا افتقدتُ وازع تلك الحالة؟.