فوجئتُ بصورته التي وضعها أحد أقاربه أو معارفه أو جيرانه على شاشة الفيسبوك، ناعيًا معزّيًا بوفاته، اعتقدتُ للوهلة الأولى أنه ليس هو، فربما تكون الصورة شبيهةً بصورته التي رأيته عليها قبل ما يزيد عن عشر سنوات تقريبًا، حين كنتُ أراه يوميًّا بعد صلاة الفجر، وأنا أمارس رياضة المشي الصباحية رفقة أحد أبناء الذوات من الذين أنعم الله عليهم، ووسّع لهم في أرزاقهم، حيث كنّا نتمشّى قليلًا، ونتسلّى ببعض الحكايات والأخبار، فقد كان رجلًا طيبًا ذَا منطقٍ سليم، وفيه لله الكثير، ولكنَّ كثيره كان قليلًا مع مثل هذه الحالات، ومنطقه يضيقُ بمنطقةٍ صغيرةٍ على الجهةِ السفلى من لسانه، إذا ما شعرَ بأنَّ يدًا تقترب من جيبه. سألته عن ذلك الرجل الذي اعتدنا على رؤيته كل صباح، يبحث في مجمعات النفايات عن فُتات الخبز، وعن أشياء أُخرى، حيث كنت أعتقد أول الأمر أنه ربما يجمع الخبز ليطعم طيوره أو حيواناته، ولكن صديقي أخبرني بقصته، فعرفتُ أنه كان ميسور الحال، وكان له محلٌّ تجاريٌّ في وسط المدينة، إلا أنَّ أبناء أخيه غدروه وأوقعوه في ديون مصطنعةٍ، فأعلن إفلاسه، وخرج من تجارته صفر اليدين، وحدثَ اعتلالٌ جسديٌّ ونفسيٌّ في صحته، فقادته الظروف إلى ما صار إليه، يجمع الخبز من حاويات القمامة، بعد أن يصلي الفجر، وقد يصادف بعض الأشياء التي تخلى عنها ميسورو الحال، فقد يجد بعض الملابس التي ضاقت على أصحابها الذين تربّوا في النعيم، وقد يجد حذاءً يوافق مقاس قدميه، أو أي شيء يفيد منه.
لسببٍ ما انقطعنا عن هذه العادة الرياضية التي كنّا نمارسها، ولَم نعد نرى ذلك الرجل، ولَم يوافقْني صديقي على ما اقترحته عليه، ولم أوافقه أنا على رأيه بمثل هؤلاء الفقراء، وانتهى الأمر. فلماذا لم نفعل شيئًا ونحن كنّا نراه يوميًّا؟ ومن يرونه مثلنا كثيرون، وكلنا نراه ونحن خارجون من أداء عبادة. ولحسن الحظ فإنَّ معظم روّاد ذلك المسجد، كانوا من أصحاب المال، بل إنَّ بعضهم لو نوى المساعدة، لتكفَّل به وبأسرته، دون أن يشعر أنَّ ثروته قد اهتزت، أو نقص منها شيء. لكن الكل كان يخرج من الصلاة، مسبِّحًا مهلّلًا، وبيمينه مسبحة طويلة أو قصيرة، يُطقطِقُ بها بأنامله الناعمة التي تستبيحُ حباتها تسبيحًا منغَّمًا يتماهى مع طقطقةِ خرزات المسبحة، ليتقطَّع التسبيح أحيانًا ببعض الأحاديث دون انقطاعِ طقطقة الخرز. وينفضُّ الناس، وذاك المسكين ينقضُّ على أرغفةِ أولئك المسبحين السابحين في بحورٍ من النعيم. فهل كان في العبادة إفادة؟
وحتى أختصر الطريق على الذين سيسألون: وماذا فعلت أنت؟ فأفضلُ إجابةٍ هنا: لا شيء. لماذا؟ لأنني لم أكن أملك ما يجعلني أقول بأنني فعلتُ شيئًا يستحق الذكر، ولكن الشيء الذي يستحقُّ أن أذكره الآن، هو أنني طلبتُ ذات يومٍ من ذلك الرفيق الرياضي أن يُساعده، فكان ردُّه غير متوقع، بل جعلني أعيد حساباتي بشكلٍ سريع، في كلِّ شيء، أجل، في كلِّ شيء.
إذا كان الأغنياء وكلاء الله، وكان الفقراء عياله، وبخل الغنيُّ على الفقير، فإنَّ الوبالَ قادمٌ قائمٌ قاتمٌ لا محالة. وأعتقدُ أنَّ في داخل كثيرين مِنّا طبقيةً خفيّةً، فنحن نتغنّى بقيمٍ لمّاعة، ونتظاهر بالعبادة والطاعة، ولكنَّ الذي يلمعُ في الظاهر ليس ذهبًا، فالفقراء الذين يعيشون في قاع المدينة، يُدركون أنَّ هناكَ خشونةً في أرواح سكان القمم، وأصحاب النعم، تخفيها وجوهٌ ناعمةٌ، وشفاهٌ باسمة.
مات جامعُ الخبز، وما زال روّاد الجامع يجتمعون فجرًا ليجمعوا الحسنات. وكم جامع خبزٍ ما زال ينتظر موته بصمت، ليرحلَ إلى مكانٍ لا جوع فيه، ولا سجود ولا ركوع، ولا آهات ولا دموع. جامعو الخبز كثيرون، والطوّافون على بيوتهم قلائل. والفقرُ قاتله الله، شيطانٌ أسودُ يفغرُ فاه، فيبتلع الحياة، ويلتهم السعادة، ويغوي الكرامة في كثيرٍ من الأحيان، والطبقيةُ وحشٌ لا يشبع، والموتُ يذكرنا بكلِّ شيء، ثم ننسى بعد حين، إلى أن يأتي موتٌ آخر، فنعيد الرواية، وقد نبدّل الشخوص والأدوار، والدهرُ يومان: يومٌ لك، ويومٌ عليك.