كشفت نتائج محادثات الجزائر، مرة أخرى، ورغم الأوضاع المتفجرة في الميدان، استمرار رهان قوى الانقسام على العامل الخارجي على حساب الحاجة لتصليب الوضع الداخلي، ومتطلبات تحصينه من الخراب الذي ينخره. فما رشح عن أسباب إسقاط البند الأهم وهو الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، يكاد يكون "فضيحة وطنية"، تظهر مدى الإصرار على المضي في إدارة الظهر لقضايا الناس الضاغطة، وعدم الاكتراث بمدى حاجتهم لبصيص أمل إزاء إمكانية انفراجها، بعيداً على الهيمنة الفئوية والمصالح الشخصية.
فالخلاف على "الشرعية الدولية" واعتبارها شئ يختلف عن "القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة" ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، يظهر عبثية استمرار الرهانات الخارحية، وما تلحقه من ضعف وتفكك تستثمرهما إسرائيل للاستمرار في إدارة ظهرها للحقوق الفلسطينية والمضي بسياستها العنصرية، وهو بالتأكيد ما يفسر أيضاً تراجع المواقف الدولية، بما في ذلك الأوروبية، والتي عادت مؤخراً لإحياء اتفاقات الشراكة مع إسرائيل دون تخليها عن انتهاكاتها لمبادئ حقوق الإنسان في فلسطين، أو الالتزام بالعودة للمفاوضات، وهي الأسباب التي جمدت العمل بتلك الاتفاقات خلال السنوات العشر الماضية.
الإصرار على استبدال مصطلح "القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة" بمصطلح "الشرعية الدولية"، والإيحاء في نفس الوقت بأن ذلك يتضمن شروط الرباعية، التي لم تعد قائمة من قبل ما كانت تسمى بالرباعية قبل أن تتفكك هي ذاتها، يضع تساؤلاً مشروعاً أمام جدية "خطاب المبتدأ" في الأمم المتحدة ويؤكد تغييب، وليس مجرد غياب "خبر" هذا الخطاب، حيث أنه يشير إلى إصرار القيادة الرسمية على التمسك بهذه الشروط، التي لم تجلب لنا سوى "عبثية الانقسام". فاستمرار إشهارها يظهر ليس فقط عدم الجدية في التغلب على الانقسام، بل، وهذا الأخطر، فإنه يؤكد مدى عزلة القيادة عن حقيقة الواقع ومدى تدهور الأوضاع الداخلية، والحاجة الفورية للتوقف أمامها بمسؤولية وطنية عالية، ليس فقط على صعيد قطاع غزة المحاصر، حيث تساوم إسرائيل سلطة الأمر الواقع لحماس، مقابل مجرد توفير الغذاء والحد الأدنى من متطلبات الحياة، بل، وعلى صعيد الضفة الغربية حيث غياب أي دور ملموس لحكومة السلطة في تعزيز صمود الناس، وتركهم وحيدين في مواجهة مخططات التهويد والاستيطان الاستعماري وسياسات القتل وتدمير المنازل ومصادرة المزيد من الأرض، وفي ظل عجز السلطة الوطنية عن القيام بالحد الأدنى من مسؤولياتها في توفير متطلبات الحماية السياسية، بفعل تراجع مكانتها ومكانة القضية الفلسطينية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
إن استسهال التوافق على شطب البند المتعلق بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، تحت ذريعة الخلاف على مصطلحي "الشرعية الدولية" أو "القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة"، وكأنهما شيئان مختلفان، يظهر مدى عدم الاكتراث من قبل طرفي الانقسام بمعاناة الناس، وغياب أي مصداقية للقوى المهيمنة على المشهد. فالحاجة لحكومة انتقالية قادرة على العمل في كل من الضفة والقطاع تتصدر الأولوية من أجل أولاً: معالجة ما تستطيع من ملفات الانقسام، وثانياً: من الذي سيشرف على التحضير للانتخابات خلال عام كما يشير إعلان الجزائر، بما يتطلبه من توفير مناخات جدية وسليمة لضمان شفافيتها ونزاهتها، وبما يشمل ضمان حرية الرأي والتعبير والتنظيم، وضرورة إلغاء جميع القرارات التي سبق وصُمِمَت لتقييد ذلك كله. كما أن إصرار حماس على موقفها من نقطة "الخلاف" تلك، وهي تعلم أنها ليست بيت القصيد، فهو يشير بوضوح أنها هي الأخرى متمسكة بالوضع القائم، وغير مكترثة بتغييره في ظل رهانها على تسارع تفكك السلطة بفعل فشل استراتيجيتها، والصراعات الداخلية على معركة الخلافة، والتي نجحت إسرائيل في وضعها كقنبلة انشطارية لمجمل الحالة الفلسطينية المرتبكة والعالقة باستراتيجيات الفشل على ضفتي الانقسام، دون أن تدرك حماس فشل استراتيجيتها أيضاً، وأن إضعاف عناصر القوة لأي طرف فلسطيني إنما يصب فقط في مصلحة إسرائيل ولا أحد غيرها.
تشكيل حكومة وحدة وطنية كانت البند الإجرائي الوحيد الذي يمكن تنفيذه فوراً، وبالمناسبة لم يكن ذلك ليجد ممانعة دولية، كما أن إسرائيل الحريصة على استمرار قنوات التواصل مع سلطة حماس، يجب ألا يُسمح لها بالڤيتو على تشكيل حكومة تشارك فيها حماس أو تشارك في اختيار وزرائها. بل إن مثل تلك الحكومة، وكحاجة فلسطينية، من المفترض أن تكون حكومة تتحدى السياسات الإسرائيلية، ولا تخضع لها، بقدر الحاجة لقدرتها على التعامل مع دول وحكومات العالم وعدم الوقوع في فخ العزلة، وهذا أمر ممكن.
غياب الإرادة، والتمترس خلف الوهم وخلف المصالح الفئوية لطرفي الانقسام أضاع مرة أخرى فرصة معالجة مسؤولة للحالة الفلسطينية المتدهورة برعاية الأشقاء الجزائريين، الذين يدركون مدى الحاجة للوحدة الفلسطينية كمدخل لنجاح تطلعهم لمعالجة تفكك ما كان يسمى بالتضامن العربي، وإمكانية توحيد الموقف العربي لحماية المصالح العربية في ظل عالم تعصف به متغيرات دولية غير مسبوقة.
ويظل السؤال؛ أنه أمام خطر تفكك السلطة الفلسطينية، فما الذي بيدها سوى مراجعة مسار الفشل، وكيف لها استنهاض عناصر القوة التي غابت نهائياً في ظل التكيف مع الرؤية الإسرائيلة لطبيعة السلطة على ضفتي الانقسام كونها سلطة وظيفية لحماية الأمن الإسرائيلي، وهو بالمناسبة السؤال الذي يشغل أيضاً بال المؤسستين الأمنية والسياسية في إسرائيل، والتي تدّعى حرصها على بقاء السلطة، في وقت أنها تدرك تماماً أن السبب الجوهري لضعفها ولاحتمال تفككها أو سقوطها هو تلك الرؤية التي تحصرها في وظيفتها الأمنية والإصرار على تغييب أي أفق سياسي لأي تسوية سياسية. ولعل هذا هو السبب الرئيسى المركب لعودة ظاهرة المقاومة المسلحة، والتي لا يمكن معالجتها بوسائل أمنية سبق وجربتها إسرائيل على مدار ما يزيد عن خمسين عاماً من الاحتلال والقمع، وهي عالقة في وهم إمكانية كي وعي شعبنا الفلسطيني لتصفية حقوقه. والأهم أن تضحيات الشبان قد تذهب سدى إن لم تتوفر لها حاضنة وخطة عمل سياسية تنطلق من استراتيجية موحدة ومؤسسات وطنية جامعة.