لا بد أننا في حاجة ماسة إلى التذكير بأبسط الأمور في هذا الزمن الغريب الذي يسوغ فيه بعض الشيوعيين أفراداً وأحزاباً على السواء التعاون مع الولايات المتحدة ومخابراتها، والمركز الإمبريالي العالمي كله، متذرعين بمقاتلة الدكتاتورية تارة، والفكر الديني المتخلف تارة أخرى.
وأول ما نود استحضاره هو كلاسيكيات الفكر اليساري الكبرى من قبيل كتابات ماركس وسان سيمون ولينين وروزا لوكسمبورغ وجورج لوكاش وكتاب مدرسة فرانكفورت وماو تسي تنغ وسارتر وألتوسير وبول سويزي ومفكري مدرسة النظام العالمي: فرانك، ووالرشتين، وسمير أمين، والمفكرين الماركسيين العرب المبدعين أمثال مهدي عامل وحسين مروة وعادل سمارة. ليس في هؤلاء من عد الإلحاد أو الانتخابات الشكلية الغربية أو الحريات الاقتصادية الليبرالية أساساً في الفكر الاشتراكي: كلهم نظر إلى الصراع المادي الاجتماعي الطبقي بوصفه أساس القصة التاريخية وأسها. ويكفي أن نسأل الشيوعيين المتحالفين مع أمريكا والتمويل الغربي من أجل إشاعة الانتخابات وحقوق المرأة ومحاربة الدين –الإسلامي فقط-،كم صفحة كتب ماركس في الديمقراطية أو نقد الدين؟ من الواضح أن الرجل لم يكتب إلا صفحات قليلة جداً لا تذكر، بينما ركز جهده ووقته كله من أجل مناقشة علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة على الاستغلال وانتزاع فضل القيمة وكيفية تجاوزها. وهذا بالنسبة للرجل هو الحلم الشيوعي الأول والأساس، وكل ما عداه تفاصيل ثانوية تأتي في سياق بناء الاشتراكية. عندما يسقط نظام الملكية الخاصة وتتحقق العدالة الاجتماعية تحصل المرأة على قفزة هائلة في حقوقها. ولعل تجربة الدول الاشتراكية السابقة على علاتها قد بينت أن المرأة قد حققت بالفعل في تلك التجربة ما لم تحققه المرأة في الدول الرأسمالية المتقدمة حتى اللحظة.
لا يمكن للمرء في هذه اللحظة أن يكون يسارياً بالتخلي عن فكرة الصراع الاجتماعي المادي في المستويين المحلي والكوني (باعتبار النهب في المستوى الكوني شكلاً من الصراع الطبقي المعولم) والتعلق بأهداب اللبرالة وحقوق الإنسان الممولة من قبل الاستخبارات الغربية بغرض تقويض مفاهيم الصراع الاقتصادي السياسي سواء أقامت به قوى يسارية في أمريكا اللاتينية أو قوة دينية يسارية في لبنان اسمها حزب الله. نعم لا بد أن علينا أن نقولها صراحة وبلا مواربة: إن اليسار في هذه اللحظة في بلاد الشام كلها، وربما في المشرق العربي كله يجسده ويتوٌجه حزب الله، وليس الحزب الشيوعي العراقي أو حزبي "فدا" والنضال الشعبي الفلسطينيين أو بعض أزلام الحزب الشيوعي السوري. حزب الله هو القوة التي تواجه الهيمنة الرأسمالية الامبريالية ورؤوس حربتها في المنطقة من شاكلة إسرائيل وداعش والنصرة وأصدقائها الإقليميين من قبيل قطر والسعودية والإمارات، ومفكرين أخلاط يجمعهم الولاء للمال الرأسمالي الاستعماري من قبيل الراحل يوسف القرضاوي وعزمي بشارة وبرهان غليون وقائمة طويلة من مرتزقة الفكر الذي يتمسحون ببلاط أمراء القرون الوسطى وبرابرة رأس المال في واشنطون ولندن وباريس. وهذا الحزب ينحاز أيضاً إلى الطبقات الشعبية علناً وعلى رؤوس الأشهاد. لكن بعض المتمولين من الدوائر الاستعمارية، يمكن أن يظن مخلصاً أو متخابثاً، أنه "تقدمي" وأن حزب الله "رجعي" بسبب أنه –أي المتمول- ملحد ويناضل ضد الدين –الإسلامي-، ولهذا لا بد أن نوضح أن موقع الفرد من الصراع ضد الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما هو الأساس. أما تلقي الأموال من الاستعمار فهو ما يخرج المرء من دوائر كثيرة، ويضعه في دوائر أخرى ليس الصراع من أجل التحرر أو النضال الطبقي أو مقاومة الاحتلال أحدها.
في هذا السياق نود أن نقول لكل من له أذنان صاغيتان أن بوصلة الحق والمقاومة من أجل مراكمة الانجازات في الصراع الطبقي والتحرري في المستويات الكونية والقومية تتجه ناحية مقاومة هيمنة المركز الاستعماري العالمي على فقراء الجنوب، ونخص بالذكر الهجمة الرهيبة التي يتعرض لها وطننا العربي بغرض تفتيته وإخضاع أشلائه لإرادة الاستخبارات الغربية وأمراء النفط والتخلف والجهل الذين يأتمرون بأمرها. ومن هنا فإن من لا يضع أجندة صريحة تجسد هذا الفهم يشارك في اللعبة الامبريالية الكونية بشيء قليل أو كثير من سوء النية. يمكن للمرء أن يغمض عينيه ويتوهم أنه ب"النضال" من أجل إشاعة مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة، فإنه يقاوم التخلف وداعش والإسلام السياسي...الخ. لكن هؤلاء ليسوا العدو الحقيقي المتمكن من أدواته، إنهم أدوات لا أكثر في الماكنية الرأسمالية الرهيبة التي تقودها الولايات المتحدة. وعندما يتلقى أحدنا أموالاً من الولايات المتحدة أو أحد حلفائها من قبيل فرنسا أو المانيا أو بريطانيا أو اليو.أن. دي. بي. UNDP، فإنه أدرك ذلك أم لم يدركه، يتلقى أموالاً لكي يقوم بوضع لبنات هنا وهناك صغيرة أو كبيرة في بناء الهيمنة الامبريالية على طريق تصفية جيوب المقاومة التحررية والطبقية، بينما يردد كالببغاء أناشيد الحرية والليبرالية وحقوق الإنسان، التي توزعها وكالة المخابرات المركزية مع ذر بعض الرماد في العيون عن تمكين المهمشين والضعاف والأقليات، بينما المقصود تعزيز ما يسمى بسياسيات الهوية identity politics التي تعني في التطبيق بعث أحط وأحقر أشكال الهويات ما قبل الحداثية من إثنية وطائفية ومناطقية مع "تبهيرة" خفيفة من حقوق المرأة والمثليين. هنا يأتي دور مفكري ما بعد الحداثة الذين لا يحبون القضايا الكبرى من قبيل الاشتراكية والقومية والصراع الطبقي والتحرري، ويركزون على تفكيك الواقع في بلادنا بينما يزداد مركزة بشكل جنوني في شمال العالم ومركزه.
لا يتوهمن أحد من الناس بحسن نية أو بتذاكي أجوف مصحوب بالكثير من سوء النية، أن بإمكانه أن يحصل على المال من الدوائر الاستعمارية لكي يستعمله ضدها على أي نحو من الأنحاء. ولا بد أن سكان الضفة الغربية وغزة يعرفون خيراً من أي كان في هذا العالم أن الأموال لا تدخل إلى البلاد من وراء ظهر قوى الاستعمار ومخابراتها. ولا بد أن استقبال ألف دولار من شقيق أو زوج يعمل في المهجر يتطلب تحقيقاً مستوفى لدى إدارة البنك وأجهزة الأمن المتعددة. وهناك طرفة فحواها أن امرأة في رام الله قالت لموظفة البنك "إن هذه العشرة آلاف دولار من زوجي من أجل دفع قسط الجامعة وإكمال ترميم المنزل الآيل للسقوط." فردت الموظفة: "أيوه، ولكنني لم أفهم صلة الرجل بك، ولا دوافع إرسال المال على وجه الدقة." أما مئات ملايين الدولارات التي تأتي من كندا والسويد وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، فإنها تدخل إلى البلاد حلالاً زلالاً، ثم تصل إلى جيوب وحسابات أفراد ومنظمات أنجزة يدعون، وتدعي، الانتماء لليسار، لكنه يسار في خانة الحزب الديمقراطي الأمريكي وحزب العمال الإنجليزي وليس في خانة تشافيز ولا حزب الله ولا ماركس ولا ماوتسي تنغ. إنه يسار ينشد أنشودة "تسقط الديكتاتورية"، يسقط الإسلام، عاشت اللبرلة والانتخابات. ولا كلمة عن الاستعمار، ولا كلمة عن نهب الجنوب، ولا كلمة عن تحرير فلسطين أو الكفاح المسلح أو الصراع الطبقي.
علي أن أختم، إذ ليس المقصود هنا الدخول في النظريات، وإنما التذكير "سياسيا" بالأوليات: ليس هناك من مشكلة في حقوق المرأة، أو إنجازات الرأسمالية على صعيد الحريات الفردية الليبرالية، أو نقد الدين القروسطي، ولكن هذا أصبح وراءنا، وهو جزء من إنجازات الرأسمالية العظيمة، لكن الاكتفاء بهذه البنود في اللحظة الراهنة يعني الانسجام مع الإيديولوجية الامبريالية الراهنة التي تريد استخدام هذه المفاهيم البراقة حصان طروادة لإحكام قبضتها على الجنوب. على أجندة التاريخ الآن، بناء كتل كبيرة في الجنوب: وحدات قومية أو إقليمية كبرى، والتحرر من الاستعمار الكوني عن طريق فك الارتباط به عبر الصراع؛ الصراع المسلح إن لزم الأمر، وهو لازم لا محالة. لكن جزءاً من عملية فك الارتباط تتطلب فك الارتباط الثقافي والتبعي التمويلي بأساطين الرأسمالية الكبار. وهذا ألف باء الأشياء.