حادثة دهس سائق شاحنة إسرائيلي، لمجموعة من العمال الفلسطينيين من قطاع غزة على معبر "إيرز"، كانت الصاعق الذي فجر الانتفاضة الأولى، يوم 8 ديسمبر/كانون أول 1987، وصدر البيان الأول بعد الحادثة بشهر، في 8 يناير/كانون ثاني 1988، وحمل توقيع "القوى الوطنية الفلسطينية"، ليتغير هذا التوقيع لاحقا إلى "القيادة الوطنية الموحدة" على 97 بيانا كانت تصدر شهريا..
وفي محاكاة لقيادة الانتفاضة الأولى الموحدة، صدر في 27 أكتوبر/ تشرين أول 2022 أول بيان حمل توقيع "القيادة الوطنية الموحدة" من محافظة جنين، دعا لتنظيم الإضرابات التجارية والعامة، وإغلاق المحال التجارية عند مرور موكب تشييع أي شهيد، ثم العودة للنشاط التجاري، بالإضافة لتوقف حركة السير في كافة المحافظات الفلسطينية لدقيقتين، وإطلاق أبواق السيارات والتكبير عند ارتقاء أي شهيد..
ومما لا شك فيه، أن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي كانت سائدة عشية الانتفاضة الأولى عام 1987، تختلف عن الظروف السائدة في العام 2022، ولكن القاسم المشترك بين الانتفاضة الأولى وانتفاضة 2022 المحتملة، هو بطش الاحتلال وجرائمه من قتل وهدم منازل، ومصادرة أراضي وتغول الاستيطان وسياسات الفصل العنصري، وغيرها من الممارسات التي ازدادت وتأثرها في الفترة بين عامي 1987 و 2022..
إن مجموعة "العرين" في نابلس، والمجموعات المسلحة الأخرى في جنين، (وربما نشهد انطلاق مجموعات اخرى في مناطق مختلفة من الضفة الغربية)، رغم إمكانياتها التسليحية المتواضعة، ورغم اغتيال الاحتلال لعدد من أفراد نواتها الصلبة، إلا أنها نجحت في إلقاء الحجارة في المياه السياسية الفلسطينية، والإسرائيلية والإقليمية والدولية الراكدة، وهي عمليا تعد بمثابة صاعق تفجير محتمل لانتفاضة شعبية "غير مسلحة"، أدواتها الحجارة والمتاريس، وإطارات السيارات المحترقة والعصيان المدني، والتي نقرأ في بيان "القيادة الوطنية الموحدة" في محافظة جنين محاولة للسير بها إلى هذا الاتجاه..
وبخلاف انتفاضة الـ 87 فإن انتفاضة الـ 2022 المحتملة تفتقر لحاضنة رسمية، حيث شكلت منظمة التحرير خلال الانتفاضة الأولى حاضنة لها، في حين أن انتفاضة ثالثة اليوم ( إذا قدر لها أن تندلع)، تفتقر لمثل هذه الحاضنة، نتيجة لقيود اتفاق أوسلو التي تكبل السلطة الفلسطينية، والتزامها بالتنسيق الأمني، ناهيك عن تشرذم وضعف فصائل منظمة التحرير، التي لم يتبق من معظمها سوى مخصصات الصندوق القومي المالية وتسميات هيئاتها القيادية ..
إن مجمل الظروف الموضوعية، التي يعيشها الفلسطيني اليوم، وصفة مناسبة لاندلاع انتفاضة ثالثة، بيد أن هذا لا يكفي دون تكامل العاملين الموضوعي والذاتي، ففي زمن الانتفاضة الأولى عام 87، كان للمجلس الوطني الذي عقد في الجزائر، دور كبير في دعم الإنتفاضة آنذاك، نتيجة لتوحيده الساحة الفلسطينية، ووضع حد للخلافات بين فتح والجبهة الشعبية، في حين أن الانقسام الداخلي اليوم لا يزال يحط بثقله على الشعب الفلسطيني..
وما يجعل من اندلاع انتفاضة اليوم أمرا ممكنا ، أن تيارين في حركة فتح معنيان بالتصعيد، والدفع بالأمور إلى اندلاعها، إلا أنهما يختلفان في المدى الذي يمكن أن تصل إليه، وفي النتائج التي يمكن أن تحققها .. التيار الأول، هو التيار المقاوم الذي يرفض ما آلت إليه الحالة الفلسطينية اليوم، ويتشكل هذا التيار من الجيل الذي كان فاعلا خلال الانتفاضة الأولى وما قبلها، ويرفض إدارة النظام السياسي الفلسطيني للصراع مع إسرائيل، أما التيار الثاني، فهو حركة فتح الرسمية التي تمثلها اللجنة المركزية، التي قد تحاول الربط بين المطلب الإسرائيلي "لضبط الأمن"، مقابل تحسين شروط الحياة المعيشية، بتوسيع صلاحيات السلطة في مدن الضفة، وتخفيف الحصار المالي عنها بما فيها إستعادة أموال المقاصة، وبهذا تقدم نفسها للولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل كرجل المطافئ، وتقديم نفسها للفلسطينيين على أنها حسنت شروط حياتهم!
وفي جميع الأحوال فإن أي انتفاضة قادمة، يجب أن تستفيد من تجربة الانتفاضة الأولى 1987، التي تم انتهت بعقد اتفاق أوسلو، الذي أوصل الحالة الفلسطينية إلى وضع مشابه لـ"النكبة"، وكذلك الاستفادة من تجربة انتفاضة الأقصى عام 2000 ، التي أسفرت عن سقوط أكثر من 4400 شهيد، وجرح نحو 48 الفا.