فشل منظمة التحرير الفلسطينية ومجمل الحركة الوطنية في تعريف مرحلة نشوء السلطة الوطنية كونها مرحلة جديدة تداخلت فيها مهمات التحرر الوطني مع مهمات البناء الديمقراطي بدرجة لا يمكن الفصل بينهما، شكَّل تحولاً في طبيعة الأزمة البنيوية والمركبة للنظام السياسي الهش التي ندفع جميعاً ثمنها اليوم. فقد أدى هذا الفشل، ليس فقط إلى عجز السلطة و قواها الاجتماعية طوال عقدها الأول عن بلورة فلسفة للحكم تربط بشكل دقيق ومحكم بين المرحلتين المتداخلتين كتوأمين سياميين، بل،و فشلت أيضاً في تحديد طبيعة الأدوات القادرة على متابعة مهماتهما، وبما يشمل الفصل بين السلطة والمنظمة. كما أن سلوك المعارضة شكَّل الوجه الآخر لعملة الفشل، عندما اكتفت باعتبار أن انشاء السلطة ذاته يمثل خروجاً عن المعسكر الوطني، و رفضت التلسيم بوحدانيتها، وما يتطلبه من اسهام وطني شامل في ترسيخ عقدها الاجتماعي وعقيدتها الامنية وفقاً لطبيعة المرحلة، فاتحة بذلك، لشديد الأسف، باب الصراع الداخلي على مصراعيه، والذي يتعمق حتى اليوم بأبشع أشكاله الانقسامية.
اذا نظرنا لمضمون مهام التحرر الوطني في مرحلة البناء الديمقراطي لمؤسسات السلطة، والاعتقاد السائد في حينه بأن هذه العملية هي مجرد عملية تفاوضية ستفضي تلقائياً لانهاء الاحتلال، فإن هذه السياسة وضعت مصيرنا الوطني برمته رهينة لڤيتو حكومة الاحتلال، الذي يتعمق بصورة غير مسبوقة في مشهد الانتخابات الاسرائيلية التي تجري اليوم بين معسكرين يرفض كلاهما الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم . كذلك الأمر لو دققنا أكثر في مدى سويّة بنية مؤسسات السلطة التي شابها سوء الادارة والفساد و ندرة اعتماد مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب، والأمر ذاته ازاء تهميش شبكة الاتحادات الشعبية والمنظمات الجماهيرية و النقابات المهنية التي جرى تفريغها، ومجمل الحركة الشعبية، والتي نمت في سياق الانتفاضة الكبرى، من دورها ونزع قدرتها على الاسهام في عملية التحرر الوطني كجزء من استراتيجية احالة الحركة الجماهيرية برمتها ، والتي طالما لعبت دوراً مركزياً في تأسيس الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، وفي مسيرة النضال الوطني منذ النكبة، إلى التقاعد، الأمر الذي أفقد الحركة الوطنية سلاحها الأهم الذي كانت تقوم به هذه الشبكة الواسعة في صون وحدة النسيج المجتمعي و قضية شعبنا الوطنية، وألحق ضررا بالغاً يبدو أن ترميمه يصبح أمراً مستحيلاً في سياق واقع النظام السياسي الراهن والمنقسم على ذاته.
في مؤسسات الحكم، وبغض النظر عن طبيعة أنظمة الحكم ذاتها، يوجد "دفتران" لممارسة السلطة، الأول يحدد بصورة حاسمة الأمور التي لا ينبغي القيام بها، وتشكل خطوطاً حمراء يعتبر مجرد الاقتراب منها تهديداً لاستقرار تلك الأنظمة، و أما "الدفتر الثاني"، وفي سياق طبيعة المرحلة وفلسفة الحكم، يتضمن خطة العمل والقضايا الجوهرية التي يجب القيام بها، ويُستقطب للاسهام في بلورتها وآليات تنفيذها أكثر المستشارين كفاءة وخبرة، والذين يعملون خلف الستار، لبلورة الأولويات وحشد الموارد وسبل التنفيذ الدقيق والناجح لهذة القضايا.
منذ العهد الرئاسي الذي نعيشه ومداهمة الانقسام للنظام السياسي، يبدو أنه تم إضاعة أو تمزيق "الدفتر الثاني" الذي يتضمن القضايا التي علينا القيام بها، ومعه تمت تدريجياً ازاحة المستشارين ورجال الدولة الأكفاء والقادرين على انتاج الأفكار وسبل الإدارة الكفيلة بفتح طريق الخروج من المأزق ، واستبدال ذلك بالدفتر الأول، والإتيان بفئة الموالين بغض النظر عن كفاءتهم وخبرتهم، وأصبحت قائمة المحظورات التي يتضمنها الدفتر الأول أولويات العمل، رغم طبيعة المرحلة الخطيرة التي نعيشها وتزداد تعقيداتها، وما تتطلبه من حكمة و روِّية . وفي سياق ذلك كانت عشرات القوانين بقرارات والتي مست بقطاعات عريضة في المجتمع و القوى الاجتماعية للسلطة ذاتها ، سيما القرارات الادارية والمالية" الفصل والاحالات الجماعية على التقاعد، واختراع ما يسمى بالتقاعد المالي لموظفي السلطة في قطاع غزة"، والاحجام عن القيام بخطوات جوهرية لمحاصرة الانقسام من خلال تقديم خطة وطنية لا تستطيع حماس رفضها، وإن رفضتها، فتُحَاصَر شعبياً وتخسر. إلّا أن ما تم ويتم هو عكس ذلك تماماً لدرجة أن حماس الانقسامية تكاد تبرأ من تهمة الانقسام، بل، وتنجح في إلصاقها بالسلطة، والأخطر هي قناعة الأغلبية من الناس بهذا الأمر.
الانقسام بيت الداء واستمراره يلف عنق نظام الحكم على ضفتي المشهد، ويحوله إلى حكم متسلط اقصائي منفرد بكامل المواصفات. في غزة يتمدد "حكم الجماعة الربَّانية"و ينفرد بالسلطة والقرار، وهنا حكم الفرد الذي لا يرى حاجة للمؤسسة، التي سبق للرئيس نفسه عشية توليه الحكم بأن اعتبرها أولويته العليا، إلا أن هذا الوعد تبخر ، حتى بات هذا الشكل من الحكم تسيطر عليه خلية ضيقة من المستشارين، ليس أمامها من إمكانيات الحكم سوى تنفيذ قضايا دفتر المحظورات، و ما يولده ذلك من نهش وتقويض ما تبقى من مكانة السلطة وحاضنتها الاجتماعية، بما في ذلك الفتحاوية منها . في هذا السياق كان قرار حل المجلس التشريعي والاصرار على عدم اجراء الانتخابات، الأمر الذي يحصر المعركة على ما يسمى بالخلافة بين مجموعة من الطامحين من خلف ظهر الشعب ودون ارادته، كما تم اصدار مجموعة من القوانين بقرارات التي مست باستقلالية و هيبة القضاء ومكانته، سيما في ظل تغييب السلطة التشريعية، و أخيراً الربط العضوي للمؤسسة القضائية برأس السلطة التنفيذية، والاطاحة النهائية بمبدأ الفصل بين السلطات واحتكارها في يدٍ واحدة. هذا الأمر يطرح تساؤلاً استراتيجياً حول ماهية الدولة التي قدم شعبنا التضحيات الكبرى للظفر باستقلالها؛ فهل فقط تَنكُّر اسرائيل لحقنا في تقرير المصير هو العقبة الوحيدة التي تحول دون تجسيد هذه الدولة على الأرض، أم أنه وبالاضافة لهذا العدوان الاسرائيلي على حق شعبنا بالحرية والسيادة، فإن الاعتداء على ركائز بنية نظام سياسي ديمقراطي وطني موحد يقوم على الفصل بين السلطات ويصون التعددية السياسية والفكرية وحرية الرأي والتعبير، وغيرها من المبادئ التي سبق لشعبنا وكرسها في مجرى نضاله الوطني الطويل والمعقد، بات يشكل، لشديد الأسف،الذراع الثانية لعتلة مقصلة منع قيام دولة فلسطينية، تكون، وبالاضافة لامتدادها الحضاري والتاريخي في هذه البلاد، إضافة نوعية للحضارة والتقدم الانسانيين، وقادرة في نفس الوقت على استقطاب دعم أحرار وشعوب العالم في وجه العنصرية المتنامية حد الفاشية التي تأتي بجماعة كهانا"بن غفير وسموتريتش" إلى صلب الدولة العبرية ونظامها السياسي، كتعبير عن مأزقها التاريخي .
التراجع عن بعض قوانين السلطة القضائية أمام اضراب وهبة المحامين، وكذلك التراجع عن بروڤة حل نقابة الأطباء بدعوى "فلسطنتها"، والتي كانت فيما يبدو مقدمة لحل مختلف النقابات المهنية واعادة تركيبها، لولا العصيان المهني للأطباء وعدالة معركتهم النقابية، تؤكد طغيان أولوية هندسة نظام الحكم وفق المقاسات الضيقة للخلية الحاكمة على أي اعتبار، بما في ذلك سلامة المجتمع و مدى تماسك بنيته ونسيجه الوطني وصون مكتسباته، إلا أنها تؤكد وبصورة جليِّة أيضًا، أن معركة الدفاع عن الحقوق المدنية والاجتماعية باتت مفتوحة على مصراعيها، و أن النجاح النقابي والمهني فيها ممكن طالما كان عادلاً وينطلق من التمسك بالخيار السلمي الديمقراطي كنموذج للتغيير، وأن هذه المعركة الاجتماعية الديمقراطية بحاجة لأن تعيد تعريف نفسها كجزءٍ لا يتجزء من معركة المصير الوطني، وأهمية تكاملها مع موجات الهبات الوطنية الناهضة من قلب القدس المحتلة ومن الأحياء الفقيرة في المدن والبلدات والمخيمات ، وفي نطاق أوسع بما يشمل تصويب مسار المرحلة وطابعها الوطني الديمقراطي وحاجتها الماسة لتنظيم حاضنتها الجماهيرية والشعبية في اطار مهمات اعادة بناء الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، ومن خلال مؤسسات وطنية جامعة تعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كجبهة وطنية وائتلاف عريض يقود مهمات التحرر الوطني، و لمؤسسات السلطة كرافعة أساسية للصمود الوطني.