ليس في المقاومة من تعابير تُربكها أو تُعقد مشهديتها، فلا هي تحتاج لتوصيفات من قبيل عمليات فردية أو عمليات تنظيمية؛ وليست هي تساؤلٌ يحتاجُ إلى إجابة؛ وليس مكانها استثناء، فلا جنين استثناء، ولا نابلس استثناء، ولا حتى غزة استثناء. عند التفكير في الاستثناءات نقعُ في مغالطة مفاهيمية كبرى تتعلقُ بكيف نُعرِّفُ فلسطين أو كيف نُفكر في فلسطين عموماً. هل نفكر فيها بمنطق التصيُّر المستمر، كما عند جيل دولوز ومحمود درويش، بمعنى أنها كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين، أم أننا نفكر فيها بمنطق الاستثناءات الجزئية، التي تفرضُ حالةً من الاندهاش بالحدث ومكانه في كل مرة؟
الاندهاشُ سمةٌ طفولية؛ يندهشُ الطفلُ من كل جديد وينبهرُ به، لذلك نصيرُ كباراً عندما نفقدُ قدرتنا على الاندهاش، لأن الاندهاش يخفتُ عندما تُغطيه عباءة التجربة. من هنا، لربما يجدرُ التمييزُ ما بين حالةِ الاندهاش والرغبة. الرغبة المتحققة التي نخلطها بالاندهاش عندما تقعُ عملية بطولية أو عملية مقاومة، وعندما نبدأ بتفسيرها، أو عنونتها، ونخضعُها لمبضع التحليلات، والتوصيفات، وكأنما نريدُ أن نفهم أو نصفَ أو نحلل أنفسنا، فنسقطُ الاستثناء، الذي هو نحن، على الطبيعي الذي نُفكر فيه بمنطق الاستثناء والاندهاش.
عندما نعزلُ الطبيعي/ المقاومة، ونضعه في خانة الاستثناء، فإننا نُعيدُ تعزيز قيمَ دخيلة جلبتها أوسلو معها وطبَّعتها، فخلخلت أوّل ما خلخلت الذاكرة وصفتها وعملها. حولتها إلى ذاكرة قصيرة، مثل ذاكرة السَّمكة، التي تنسى سريعاً فتُربِكُ مفهوم الزمن، وتحوِّلُه إلى زمنٍ لحظي، لا قيمة له، لأنه لا تراكم فيه ولا ديمومة له. فهو حالةٌ من التقطيع اللحظي الآلي المستمر الذي لا يتوقف؛ فيُقطع معه كل شيء: ديمومةَ الفكرة، وديمومة المقاومة، وديمومة الوعي.
الزمن اللحظي لا يكتبُ تاريخاً، ولا يملأ ذاكرة، فتدخُل الهويةُ في حالةٍ من القلق. وقلقُ الهويةِ مفزع في الزمن اللحظي، لأنه حالةُ انشطار متسارعة في كثافة اللحظة الحالية ما بين أنا الآن، وما كنتُ، وما أريدُ. وينتهي السؤال سريعاً دون جواب نتوقفُ عنده أو نفكر فيه، ومن ثم ننساهُ، وندخلُ في تقطيع لحظي جديد، وقلقٍ يُضافُ إلى قلق، فلا امتداد في الزمن أبعد من اللحظة الزمنية الحالية. لذلك، ننسى. ننسى أسماء الشهداء، وننسى أسماء الأسرى، وننسى العدو ونتركهُ عند مداخل المدن وفي كثير من الأحيان بيننا أو في أرواحنا، أو ننسى أنه موجودٌ، فنتفاجأ ونندهشُ من رعد ووالده، ومن إبراهيم النابلسي، ومن ضياء، ومن الأخوين إغبارية، ومن عرين الأسود، ومن أبطال نفق الحرية، ونضعهم في خانة الاستثناء والـ لا طبيعي، أو في خانةِ الجديد أو المستجد. لا نُدرِكُ الفارقَ بين دهشة الجديد الطفولية، وما بين الإبداع كديمومة حياة متصلة لا تتكرر ولا تُعيدُ إنتاجَ نفسها. وأن التكرار الوحيد الذي يجبُ أن نتوقف عنده هو جدةُ كل تكرار مقاوم، والإبداع الذي يطرحهُ أمامنا في صيغة الإبداع المتصل والمرتبط بالمكان الذي كان يُسمى فلسطين وصار يسمى فلسطين.