الحدث الثقافي
قد يصحّ القول بداية أنّنا أمام ظاهرة من أدب إلكتروني ناضج نوعاً ما أو أخذ ينضج تدريجيّاً بفعل التجاوب اللحظي المباشر مع النصوص المعروضة، بحيث أصبحت أكثر قدرة على تحقيق معايير الكتابة الجيّدة المتمثّلة بأبسط شروطها، وهي الصياغة المتينة الخالية من الترهُّل اللغويّ وتَمَتُّع أغلب النصوص بالسلامة اللغويّة والصحّة الإملائيّة، مع العلم أنّ الكتابة الإلكترونيّة أحياناً تكتسب خاصيّة الكتابة الغرافيتيّة بكلّ ما يؤشّر إليه هذا الفنّ من ملامح تقنيّة وأسلوبيّة، ولهذه المسألة وقفة خاصّة، ستأتي لاحقاً في إضاءة مستقلّة.
مع التسليم بأنّ ما يُعرض على "المحامل الإلكترونيّة"، وخاصّة على الفيسبوك وتويتر يقع في أغلبه تحت تأثير الحادثة السياسيّة أو الاجتماعيّة أو العاطفيّة؛ فبمجرد أن يحدث الحدث ترى الشخص/ الكاتب قد سارع في الكتابة عن لحظته التي هو عليها، بعيداً عن التروّي والتأنّي، علماً أنّ هذه الحالة من الكتابة قد تنشئ كتابات جديدة ذات مستوى شعوري عالٍ، لكنّها على المدى البعيد تستنزف الكتّاب، وتودي بأهمّ شرط من شروط الكتابة، وهي: التأمّل والتدبّر، وصناعة الرؤيا الإبداعيّة، والمشروع الإبداعي.
إنّها أشبه بتشرذمات فكريّة تنداح هنا وهناك ليتفتّت الكاتب إلى شذرات على جداره الإلكتروني، فيفرغُ مخزونه الإبداعيّ فلا يستطيع على المدى البعيد أن يكتبَ نصوصاً أطول عميقة الرؤيا، وسبق أن حذّرتُ بعض الأصدقاء الكتّاب من هذا الفعل اللغويّ غير بعيد الأهداف الإبداعيّة، ولا يساهم في ترسيخ مشاريع ثقافيّة لها قيمتها الموضوعيّة والفنّيّة، وهذا ما ألاحظه في بعض صفحات الكتّاب المكرسين ذوي المشاريع الثقافيّة، فلا يركضون وراء هذه العاطفة اللغويّة في "منشورات" آنيّة.
لعلّ لجوء مجموعة من الكتّاب الناشئين إلى هذا الفعل اللحظي من الكتابة قد يحقّق لهم حضوراً ما، لكنّه حضور آنيّ لحظيّ كذلك، فكتابات الواحد منهم لا تستمرّ في العرض طويلاً، حتّى تزحزحها عن الواجهة كتابات أخرى، فلا يَعْلَق منها شيء في أذهان القرّاء التي لم تعد تختزن شيئاً منها لكثرته ولتشابهه، ولعدم تعايشه واستقراره، فيصبح منشؤها سريعاً وتلقيها سريعاً وزوالها سريعاً، وتنحدر الكتابة إلى أن تصبح نوعاً من التداول المحكوم بالظروف، ولا يعنيها من ذلك أكثر من هدف التواصل الذي يجعل بينها وبين "الشعريّة" أو "الأدبيّة" بوناً شاسعاً.
إنّ هذه الحالة من الكتابة تجعل الكاتب تحت ضغط نفسيٍّ يدفعه للكتابة ولتحقيق هذا الحضور، وذلك التفاعل الذي يطمح له من مجموع الإعجابات والمشاركات والتعليقات، وانتقلت الشلليّة الثقافيّة الواقعيّة إلى شلليّة إلكترونيّة، فعمّ المديح الزائف والمبالغ فيه لنصّ لا يقوم ولا يستقيم، وربّما فقط لأنّ الكاتب هو فلان من الناس ذو أصدقاء كثيرين، أو لأنّه امرأة لطيفة الابتسامة في صورة ليست حقيقيّة أو معدّلة بالفوتوشوب، فتحصد تلك الكتابات الخائنة الخائبة ما لا تحصده كتابات الكتّاب الجادّين الذين يكتبون على مهل وبرويّة.
لقد ساهمت هذه الحالة ببروز كتّاب إلكترونيّين، طغوا على الكتّاب الواقعيّين أحياناً، وانتقلت كتاباتهم من الألواح الإلكترونيّة إلى الصحف والمجلّات والكتب، بناء على ما حصدته من تلقٍّ منقطع النظير هناك، وإذ بها بضاعة كاسدة مزجاة ليس لها قرّاء، فأين ذهبوا؟ إنّه سؤال بحاجة إلى إجابة وإجابة صادقة. ألم يكن هؤلاء الواقعيّون هم أنفسهم الافتراضيّين؟ أم أنّهم اكتفوا بما قرأوا وبما سيقرأون كلّ دقيقة يقضونها أمام الأجهزة الذكيّة على اختلاف أنواعها، فلا حاجة لشراء الكتب والقراءة التقليديّة، فلكلّ عصر أدواته وطريقته؟ ولعلّ تلك النصوص تفقد مذاقها إن قرئت في كتاب، مفارقة ظروف ولادتها ومعيشتها الافتراضيّتين.
ربّما كان هذا هو منطق العصر، ولا مندوحة عن أن نسلّم فيه، فإقبال المثقّفين على القراءة التقليديّة تراجع كثيراً وكثيراً جدّاً بسبب هذه المحامل النصّيّة الجديدة، وهذا ما يؤكّده أصحاب مكتبات بيع الكتب، فمن كان يبيع شهريّاً مئتي نسخة من مجلّة مشهورة كمجلّة العربي الكويتيّة، صار لا يبيع في أحسن الأحوال ثلاثين عدداً، كما أخبرني صاحب إحدى المكتبات العريقة، على الرغم من أنّ عدد القرّاء- منطقيّاً- في ازدياد نتيجة زيادة عدد السكان وزيادة المتعلّمين وانحسار الأميّة، والحاجة الماسّة للقراءة لدواع كثيرة، ولتوفّر مناخها المناسب الذي صنعته الأجهزة الذكيّة المصاحبة للصغار وللكبار على حدّ سواء.
علينا الاعتراف بحقيقتين كبريين، ليستا صادمتين، ولكنّهما تحتاجان لبعض دراسة وتحليل؛ أوّلهما: صحيحٌ أنّ عدد القرّاء أصبح أكثر من ذي قبل، ولكنّهم لا يقرأون كما قرأ عباس محمود العقّاد وطه حسين وتوفيق الحكيم، والعباقرة الأوّلون، فهؤلاء لهم همّهم ولأولئك همومهم، يقرأون اليوم لمعرفة عاجلة أو لمتعة آنية، لا ليصبحوا مثقّفين أو كتّاباً، ومن نتائج مثل هذه القراءة أنّها لا تنمّي العقل ولا تصقل الموهبة، لأنّها لا تتيح نوعاً من التعايش بين النصّ فكرة وأسلوباً، ولا تترك أثرها في النفس بحيث تؤثّر في العقل واللغة، ولذلك لا تتأمّل أن تساهم هذه القراءات على كثرتها في زيادة الوعي الجمعي وتطوّره، وقد لاحظت ذلك في كثير من كتابات الجيل الجديد، المتعجّل لإصدار الكتب، إذ ينقلون كتاباتهم الفيسبوكيّة تلك، ويصنعون منها مؤلّفاتهم، فهم بالتأكيد لن يكتبوا كما كتب العقّاد والمازني وطه حسين والرافعي وغيرهم.
والحقيقة الثانية التي ربّما غدت مذهلة شيئاً قليلاً هي أنّ علينا الاعتراف بأنّ النصوص الطويلة ليس مرغوباً فيها، ويتجاوزها الناس ولا يحفلون بقراءتها، على الكتّاب- إذاً- أن يراعوا مسألة التطوّر الزمني والعقلي والتكنولوجي، وتبدّل المزاج العامّ للعصر، ولا بدّ من حلّ اختراعي ابتكاريّ ليتخلّص الكتّاب من النصوص الطويلة، ماذا عليهم أن يفعلوا؟ هل يلجأون إلى النصوص القصيرة؟ هل يلخّصون مقالاتهم الطويلة، ومن أراد أن يستزيد فله ذلك (وقليل ما هم)؟ إنّ الكتّاب اليوم في ورطة حقيقيّة؛ أزمة إبداع وأزمة تلقٍ معاً، والكرة في ملعب الكاتب، وليست في ملعب القارئ، عليك أنت أيّها الكاتب مهمّة إقناع قارئك بما تكتب، عليك أن تستهويه وتغويه الإغواء الفكري الذي يريده ويناسبه، عليك أن تتطوّر كما تطوّر قارؤك فلا تظلّ على ضلالك القديم.
في ظلّ هذا السياق من التلقّي والتطوّر انتشرت وتوسعت السرود القصيرة (الومضة الشعريّة والقصصيّة، والشذرة الفكريّة، والقصّة القصيرة جدّاً)، وشاع اعتماد الصورة في التعبير، ولجأ المتراسلون إلى التواصل الصوتي القصير، وغيرها من وسائل التعبير "التكنو-لغوية"، أقول توسّعت وانتشرت، لأنّها كانت معروفة من قبل، وثمّة نصوص في كلّ العصور، وفي كلّ الآداب لها سمة النصّ القصير جدّاَ (شعرا وسردا وأخباراً)، وليس حكراً على عصر دون عصر، إذ يعود أقدم نصّ جمعه محمّد يونس في كتابه "القصّة القصيرة جدّاً من هرمس إلى نوبل" إلى عام 560 قبل الميلاد بنصّ لكاتب يدعى "إيسوب". (يُنظر الكتاب، دار يوتيبيا للطباعة والنشر، بغدادـ 2014، ص11) وليس أدلّ على وجودها في مدونة العرب الثقافية ما وجد في القرآن الكريم من "قصار السور" مكّيّة ومدنيّة.
وعلى الرغم من ذلك، إلّا أنّ النصوص الإلكترونيّة تحديداً اكتسبت ملامح خاصّة في ظلّ هذا التطوّر التكنولوجي. وبعضها الآخر محكوم بسياقات أكثر تعقيداً، كالشذرات الفكريّة التي يكتبها الفلاسفة، أو كتبها مجموعة منهم في أواخر حياتهم. إذ يصدق فيهم قول النفّري "إذا اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة".
من جهة أخرى، لم يعد هناك فرق كبير بين النصّ الشعري والنصّ السردي؛ فكلاهما أخذ يستفيد من الآخر، فالنصّ الشعري اعتمد على العناصر القصصيّة، والنصّ القصصي اعتمد على اللغة الشاعريّة وتقنيات الشعر، فوجد كثير من النصوص أو المؤلّفات بعد ذلك جمعت كلّ ذلك في كتاب واحد، فكانت النصوص منوّعة بين كلّ ما سبق، فلا حدود قاطعة حاسمة بينها، وصار النقّاد يتحدّثون عن تداخل الأجناس الأدبيّة داخل النصّ الواحد، فقد تكون قصّة قصيرة جدّاً أو ومضة قصصيّة، لكنّها مصوغة بشاعريّة ووزن، وقد تكون القصيدة سرديّة وحواريّة وذات شخصيّات وأحداث، فما الذي يمنع كاتباً أن يوظّف ما شاء في نصوصه الإبداعيّة؟
لقد التبست لذلك القصّة القصيرة جدّاً بقصيدة النثر، والاعتبار السابق هو أحدها، إضافة إلى أنّ بعض شعراء قصيدة النثر يصرّون على كتابة القصيدة على شكل فقرة، متواصلة السطور، ويعدّون ذلك شرطاً شكلياً من شروطها المميّزة، أسوة بشكل القصيدة الكلاسيكيّة الوزن وقصيدة "شعر التفعيلة".
لقد أشار الكاتب الفلسطيني محمود شقير- وهو من أوائل من كتب القصّة القصيرة جدّاً في فلسطين- في واحد من حواراته الإذاعيّة أنّه يكتب القصّة القصيرة جدّاً على هيأة نصّ شعري قصير، على قصاصات ورقيّة متساوية؛ مربّعة الشكل، ثمّ يعيد صياغتها كفقرة واحدة، متسلسلة خطّيّاً. إنّ لهذه التقنية أثراً فنّيّاً واضحاً في كتب شقير القصصيّة، وخاصّة كتابه الأخير "حليب الضحى"، والشيء نفسه يلاحظه الدارس عند الكاتب الفلسطيني هاني أبو انعيم في كتابه "أرواح شاحبة"، فقد جاءت القصص "كأنّها شجيرات مصفوفة متناسقة الأطوال والأحجام على جادّتي الطريق الممتدّ من أوّل صفحة حتّى آخر صفحة ". (يُنظر: مقال "نسق العلامات النصيّة واللغويّة في أرواح شاحبة، صحيفة الرأي الأردنيّة، فراس حج محمد، 6/11/2015).
إذاً، علينا أن نتّفق أوّلاً أنّه لا بدّ من إيجاد تقنية واضحة لدى كاتب القصّة القصيرة جدّاً، وألّا تُكتب القصّة عفويّاً دون تفكير، إذ لا بدّ من استحضار للعناصر الفنّيّة في العمل الأدبي القائم على التخطيط والرؤى، إنّها في نهاية المطاف نصّ أدبيّ له شروط محدّدة ليكون أدباً. فهي ليست فنّاً سهلاً، بل إنّها أعقد في الكتابة من النصوص الطويلة، والكاتب أمام تحدٍ إبداعيٍّ مؤدّاه أنْ تقول ما تريد قوله بطريقة مكثّفة وفنّيّة، لذلك فالقصّة القصيرة جدّاً فنّ مراوغ، يحتاج كاتباً ذكيّاً ذا موهبة حقيقيّة، حتّى لا يظنّ الكثيرون أنّهم قادرون على كتابتها، وهم في الحقيقة واقعون في فخ التبسيط والتنميط والسذاجة والسطحيّة، فيفقد هذا النوع الأدبي فنّيّته ودهشته وتأثيره. إذ النتيجة الطبيعيّة هي أنّه كلّما قصُر النصّ كان أعقد في كتابته، وأوقع في تأثيره، وليس العكس، ومن يعمل في الكتابة يكتشف "صعوبة الإيجاز، وسهولة التطويل"، فـ"الإيجاز مُتعب، لأنّه يحتاج إلى تفكير، والإطناب مريح؛ لأنّ القلم يسترسل فيه غير مقيّد ولا ممنوع". (العقّاد، ساعات بين الكتب، طبعة هنداوي، 2017، ص247).
لا شكّ في أنّ القصّة القصيرة جدّاً قد خطت خطوات بعيدة ووصلت إلى مرحلة من النضوج خلال السنوات الأخيرة، وساعدت على بروزه طائفة من الكتّاب الذين يتقنون كتابة هذا الفنّ السردي المرهق، فعدا عما ذكرت سابقاً، هناك عشرات الكتّاب الذين أصدروا مجموعاتهم القصصيّة التي اعتمدت على هذا الفنّ، ودخلت كذلك إلى الدوائر البحثيّة والنقديّة واستطاعت أن تجد لها حضوراً في أروقة الجامعات أكثر من فنون كتابيّة حديثة أخرى، كقصيدة النثر على سبيل المثال التي ظلّت بعيدة عن الدوائر الجامعيّة الأكاديميّة، ولم يتمّ الاعتراف بتلك الفنون كما هو حاصل بالاعتراف بالقصّة القصيرة جدّاً. ربّما لأنّ بعض الدارسين والنقّاد يدخلونها ضمن القصّة القصيرة، وبعض الكتّاب أيضاً ينشرون تلك القصص القصيرة جدّاً ضمن المجموعات القصصيّة القصيرة، كأنّه لا فرق بين هذين الفنّين إلّا في حجم النصّ وطوله، مع أنّ هذا التعامل مع هذا النوع من القصص يفقدها شخصيّتها الإبداعيّة، ولا يساعد على بلورتها في واقع الكتابة الإبداعيّة والكتابة النقدية التطبيقية والتنظيرية، فعلى سبيل المثال جمع محمد يونس في كتابه السابق ذكره نصوصاً تنتمي إلى القصّة القصيرة، مساهماً في تغريبها وإفقادها ملامحها، وقد أشار في مقدّمته إلى أنّ "القصّة القصيرة جدّاً لم تنضج ملامحها بشكل بائن إلى حدّ يفرّق بسرعة بينها وبين القصّة القصيرة"، بل إنّ الكاتب استهل مقدّمته تلك بالقول "ليس من السهل تحديد ملامح القصّة القصيرة جدّاً". (ينظر الكتاب، ص5)
قد تحيل هذه القضيّة إلى مشكلة في إدراك حدود كلّ جنس أدبي، وأنّه ليس صحيحاً أنّ القصّة القصيرة جدّاً هي "البنت الصغرى" للقصّة القصيرة. إنّ لها شخصيّتها المميّزة، وبنيتها اللغويّة المحدّدة، وهويّتها الإبداعيّة وشروطها الفنّيّة، وظروف تطوّرها وانتشارها التي بيّنتها أعلاه، إنّها في الحقيقة بنت لظروف أخرى غير تلك الظروف التي أنشأت القصّة القصيرة.
كما أنّ دواعي الحضور الكبير لهذا الفنّ في النصوص الحديثة الحالية مختلفة تمام الاختلاف عن القصة القصيرة، وعن الخاطرة، وعن غيرها من "السرود" القصيرة. وبالتالي فللقصّة القصيرة جدّاً مناخ خاصّ تعيش فيه، ولادة، وتلقّياً، وتناولاً نقديّاً، مع أنّ التجارب الناضجة المهمّة فيها لم تخضع لشروط اللحظة فيما يعنيه ويدخل فيه "الأدب الإلكتروني" الذي يقع في دائرة العفويّة والتلقائيّة كما طرحتُه سابقاً، هاتان الخَصِيصتان اللتان لا تظهران في القصّة القصيرة جدّاً إنْ كُتبت ضمن مشروع إبداعي لكاتب موهوب حقّ الموهبة، وكثير من الدلائل تشير إلى هذا النضوج وهذا الاستقرار في كتابة هذا النوع من السرد على الرغم من أنّه قد دخله كثيرون أيضاً من المتطفّلين على صنعة الكتابة ذاتها، من حيث هي نشاط إبداعي قبل أن يتحدّث الدارسون عن التجنيس ومشاكله ومتداخلاته الشائكة.
والآن أصبح للقصّة القصيرة جمهورها الذي يقبل عليها، ويستمتع بقراءتها ويتذوّق نماذجها الإبداعيّة ذات الإيقاعات المختلفة في تجلياتها؛ هدوءاً وصخباً، جِدّاً وهَزْلاً، واستطاعت أن تُوجد لها شخصيّة وهويّة مستقلّتين عن غيرها من الفنون السرديّة والشعريّة الأخرى، بل ويعقد لها أمسيات قصصيّة ليتلوَ فيها أصحابها قصصهم، وكأّنها تعود مرّة أخرى إلى الالتباس بالشعر الذي تصدّر تلك الأمسيات زمناً طويلاً، قبل هذه المنافسة التي بدت مقبولة وطبيعيّة ولا تثير الاستغراب، لأنّ في هذا الفنّ ما يؤهلها لتنافس الشعر، وتستحوذ على إعجاب المستمعين والحضور.
إنّ وجود علاقة بين القصّة القصيرة جدّاً وبين الأدب الإلكتروني، لا يعني أنّها علاقة تلازم وحتميّة، بل إنّها أشبه بالعلاقة النفعيّة التي تحكم طرفين، يتبادلان منفعة مشتركة، وهذا بالضبط ما يمكن أنْ يلاحظه الدارس بين هذا الفنّ السردي وبين الأدب الإلكتروني بأشكاله المتنوّعة، فقد استفادت القصّة القصيرة من هذا التطوّر التكنولوجي الذي أنتج منصّات التواصل الاجتماعي، وساعدت تلك المنصّات على شيوع هذا الجنس الأدبي، شيوعاً في القراءة، وفي النشر، وفي الكتابة، علماً أنّ القصّة القصيرة مولود شرعي سردي منذ زمن قبل كلّ تلك المنصّات الاجتماعيّة، لكنّها ساهمت في زيادة الإنتاج بنماذج كثيرة، وهذا الكثير فيه الجيّد، إلّا أنّ أغلبه تنقصه الفنّيّة اللازمة ومهارة الصنعة الأدبيّة التي تجعل النصّ ممتازاً ومتميّزاً، منمازاً عمّا عداه من مشتبهات الكتابة الإبداعيّة.
وتشير حركة التأليف المتوالية إلى أنّ هذا الفنّ يتطوّر بشكل سريع، وغدت الــ (ق ق ج) مسنودة بتنظيرات نقديّة جادّة، قامت بترسيخ هذا الفنّ وضبط قواعده، شأن النقّاد في ذلك شأن أيّ فنّ من الفنون الكتابيّة الأخرى، وكان لي تجربة نقديّة حلّلتُ فيها بعضاً من نماذجه عبّرت عنها في كتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدّاً"، وأفردت لها فصلاً خاصّاً أيضاً تحت عنوان "عودة إلى الأدب الإلكتروني والقصّة القصيرة جدّاَ" في الكتاب الثالث من سلسلة كتب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوّع السرد"، وثمّة متابعات أخرى قدّمتها على بعض الأعمال القصصيّة منشورة في الصحف والمجلّات العربيّة.
وليس هذا وحسب، بل إنّني جرّبت كتابتها في كتاب "دوائر العطش" (دار غراب للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014)، وفي بعض نصوص كلّ من كتاب "من طقوس القهوة المرة" (غراب للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013)، وكتاب "كأنها نصف الحقيقة" (الرقمية، القدس، 2016)، ويوميات كاتب يدعى (X) (الرقمية، القدس، 2016) وكتاب "نسوة في المدينة"(الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2021)، وأما في الكتاب المخطوط "متلازمة ديسمبر" فإنّني عدلتُ عن القصّة القصيرة جدّاً، لأجرّب المتسلسلة القصصيّة.
لا شكّ في أنّه يصاحبني الكثير من التوجّس خلال الكتابة الإبداعيّة في هذا النوع من السرد؛ لما له من منزلقات ومحظورات قد توقع الكاتب في حبائلها، وأهمّ تلك المحظورات، كما أسلفتُ، التسهيل والتنميط اللذان يجرّان الكاتب نحو الإسهال المرَضي في كتابة القصّة القصيرة جدّاً إلى الحدّ الذي يشعر القارئ فيه بالملل، واتّخاذه موقفاً سلبيّاً تجاه هذا الفنّ، فيؤثّر بطريقة أو بأخرى في عملية التلقّي بشكل عامّ، والتلقّي النقدي بشكل خاصّ، ولذلك فإنّ هذا النوع من السرد يلزمه كاتب محترف، يستطيع بوعي نقديٍّ كامل أن يتخلّص من عيوب الكتابة في مثل هذا النوع من القصص.