الخميس  21 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

في ذكرى إعلان الاستقلال: درويش ونص المستقبل

2022-11-13 08:27:23 AM
في ذكرى إعلان الاستقلال: درويش ونص المستقبل

 

إذا كانت الدولة هي المكون الذي تتبلور من خلاله الهويات الحديثة، فإن الفلسطينيين يصيغون هويتهم دون أن تكون لهم دولة. وإذا كانت الأوطان تصيغُ الحكاية المشتركة للهوية، فإن وطن الفلسطينيين مقسم إلى جغرافيات تصيغُ الحكاية الكبرى لهم. وهي مفارقة ضمن مفارقات عديدة تُتيحُ للفلسطينيين المواءمة بين تناقضات كثيرة أدخلت على تاريخهم وذاكرتهم. يتحرك الفلسطينيون عبر كل تلك الجغرافيات التي تشكل هويتهم عبر جغرافيا أساسية، هي جغرافيا المخيال، التي تسمحُ للفلسطيني بتحقيق رغبة روحية ذهنية، يعيشُ في فعلِ تحقُقها قبل أن تتحقق. ذلك المخيال، هو الذي امتلكه محمود درويش إبان صياغة نص إعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988، وهو الذي مكن محمود درويش من إدراك أن نص إعلان الاستقلال، هو نص للمستقبل، وليس نصاً لزمن "الآن"، أو نصا لمكان الـ "هنا". وهو ما لم يدركه كثيرون بتحويلهم ذكرى إعلان الاستقلال إلى موضع سخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، ومكاناً لتسجيل النقاط في مرمى الخصومة السياسية بين فتح وحماس، وطرحهم لسؤالهم المكرور في كل عام: أين هي الدولة؟

قدّم لنا درويش في نص إعلان الاستقلال مفهمة للمستقبل، مدركاً سؤالاً وجودياً بالأساس: ماذا يملك الفلسطينيون دون نصٍ أو مفهمةٍ للمستقبل؟ سيسقُطُ كل فعلٍ مقاومٍ في حفرة الـ لا شيء. سيذهبُ الشهداء إلى شهادتهم محبوسين في الماضي، وسيظل الأسرى في أسرهم دون أمل، سنتوقفُ عن الكتابةِ، سنتوقفُ عن احتمال الألم، سنتوقف عن التذكر، وسنتوقف حتى عن الحب الذي هو فعلٌ مستقبلي بالأساس.

جغرافيا المخيال التي حملت بلاغة درويش ومكنته من صياغة نص إعلان الاستقلال، أتاحت له، في الوقت ذاته، فرصة المناورة ما بين نص الإعلان، وما بين تنازلات البيان السياسي الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشر. وكأن درويش يُريدُ منا أن نقرأ نص إعلان الاستقلال بمعزلٍ عن البيان السياسي للمجلس الوطني. ولعلنا يمكن أن نفهم بذلك، لماذا حاز نص إعلان الاستقلال على تصويت بالإجماع الكامل بينما مر البيان السياسي بتصويت الأغلبية في المجلس الوطني.

أتاحت جغرافيا المخيال لدرويش الترحال ما بين فكرة الدولة المرتبطة بفكرة التحرر وماهية الدولة المرتبطة بالفعل السياسي التي عبر عنها سابقاً في مديح الظل العالي: "ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة". لم تكن كتابة إعلان نص الاستقلال انصياعا من درويش لطلب فرضهُ عليه السياسي الذي جفّت لغته، أو إيماناً منه بواقعية السياسي، لأن هذا التفكير يُخلخل إرث درويش الشعري. لم يقصد درويش من صياغته لإعلان الاستقلال إضفاء جمالية على واقعية السياسي، ولا تبني حاضر وفعل السياسي، أو تقصير المسافة ما بين الفكرة وصغر الدولة المحتملة، بل عمل على زيادة التوتر بينهما. هنا يأتي دور الشاعر في تقويض عبء السياسي المفروض على كاهل الشاعر، والالتفاف عليه، والتحلل من حمولة الواقع والارتحال في شاعرية الشاعر الذي يتخيلُ الواقع الممكن، نص المستقبل، دولة المستقبل، فلسطين المستقبل، ضمن صيغةِ كانت وظلت وصارت تسمى فلسطين.

هو مكر درويش الحميد. لم يختبئ الشاعر هرباً من دوره السياسي في نص سياسي، بل تحايلَ على السياسي وفرَّ من إجبار الشاعر على الانصياع له، وكتب لنا نصاً يُقدِّمُ لنا فيه المستقبلَ على الحاضر، فصاغ السياسي من وجهة نظر الشاعر. تُريدُ لنا السياسة، أن نقرأ نص إعلان الاستقلال الذي كتبه درويش بلغتها ومفرداتها، بجعل النص قزماً داخل الواقع الذي يحتله السياسي البشع. ونُريدُ أن نقرأ نص إعلان الاستقلال نصاً شعرياً بلغة الأمل. رفض درويش أن نقرأ شعره باعتباره إعلاناً سياسياً، لكنه لم يرفض أن نقرأ نصاً سياسياً كتبه بعين وروح الشاعر.

كتب درويش في إعلان الاستقلال تاريخ المنتصر من وجهة نظر الضحية المنتصرة هذه المرة، وليس من وجهة نظر المنتصر الجلاد. قفز درويش عن الزمن المتجانس الفارغ الذي عبر عنه فالتر بنيامين نحو الزمن الديمومة الذي عبر عنه برغسون بما هو إمكانية واحتمالية، يكمنُ فيها الزمن الشعوري في إمكانية تصور الزمن دون انقطاعات تصاغُ عندها التواريخ بأدوات مادية. يصيغُ الفلسطيني/ الشاعر/ الهاربُ من دور السياسي ولكنه مطالبٌ بكتابة نص سياسي، منفذاً للإفلات بخلقِ حالةٍ من التوتر بين نصين: الإعلان والبيان. ولتستقيم معادلةُ درويش بين ضرورة اتساع الدولة كي تستوعب الفكرة. أي دولة المستقبل بما هي احتمالٌ ممكن كامنٌ في الحق الذي لا يصيغهُ التاريخُ المادي المنفعل بفعل السياسي، بل القائم على فكرة الحق الذي تصيغه "ذاكرة الروح" التي عبر عنها فيصل دراج، بما هي ذاكرة تفرضُ ألا ينسى المغلوب أوجاع المغلوبين ممن سبقوه وأن ينفتح على الخلاص من ذاكرة وتاريخ الهزيمة، عبر تذكر يثيرُ حفيظة الأمل باستمرار ويكون موزعاً على الأزمنة كلها، ويُحدد شكل المستقبل.

تكمن عبقرية درويش في إمكانية رؤيته لما ستكون عليه فلسطين في زمنٍ غير زمن الثمانيات أو التسعينيات أو الألفية العشرينية، لربما هو زمن في ألفية لن نتمكن من أن نكون شهوداً عليها، ولكنها قادمة، ليظلَّ درويش منسجماً مع أن أرض الواقعِ هي أرض اللغة، فمن يكتُب الأرض باللغة يرثُ أرض الواقع ويملك المعنى. هكذا يمكنُ للضحية أن ترث زمن المستقبل وتكتب التاريخ القادم، وهو ما سبقنا إليه درويش بشاهديته عبر كتابته أرض مستقبلٍ قادم، بينما وقعنا نحن في فخ السياسي الذي أراد لنا أن نؤمن بأن الفردوس المفقود قد فُقِد للأبد، فيما يُخالفُ عقيدة درويش التي عبر عنها مراراً، بأن الفردوس المفقود قابل للاسترداد ولكن ليس بصيغةٍ ماضوية، ولا بصيغة السياسي الآنية/ الواقعية، بل بصيغةٍ من يفهم أن الزمان ديمومة مفتوحةٌ على المستقبل. لذلك صاغ لنا درويش إعلان استقلال دولة المستقبل، وأعلن لنا عنها حتى قبل قيامها.

استرد درويش مستقبلنا وكتب تاريخه قبل مجيئه المتحقق زماناً ومكاناً.