الحدث الثقافي
"لقد كان غسان باختصار شديد إنسانا صاحب موهبة استثنائية، وطاقة هائلة، مما مكنه من تأدية جميع أدواره بشكل مبدع وخلاق، وربما كان أفضل من طبق شعاراعرف عدوك حيث كان أول فلسطيني بل أول عربي تناول بالدراسة العلمية الجادة موضوع الأدب الصهيوني"، بهذه الكلمات عرف الأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله عن الشهيد غسان كنفاني، في إحدى ندواته التي تعقد ضمن سلسلة جولاته الست في مخيمات ومدن لبنان بدعوة من مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، إحياء لذكرى استشهاد كنفاني الخمسين التي صادفت 8 تموز الماضي، والتي انطلقت في 8 تشرين الثاني الجاري حتى 12.
استهل نصر الله حديثه بالقول: "أواصل جولتي في لبنان لتقديم ست محاضرات بدعوة أتشرف بها من مؤسسة غسان كنفاني الثقافية بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاده، لكن رغم كل ما استجمعت نفسي لتقديمه، تواصل الأفكار تدفقها بين مدينة وأخرى ومخيم ومخيم.
واستشهد الأديب بقول الراحل جورج حبش عن غسان كنفاني: "يستحيل الحديث عن غسان المبدع بمعزل عن غسان المناضل، معتبرا أن غسان نجح في الوقت ذاته أن يكون كاتبا عظيما للقصة والمسرحية، ورساما وناقدا وإعلاميا هاما وقائدا سياسيا بارزا ثاقب النظر وعميق البصيرة".
يقول نصر الله إن ما يلفت الانتباه أن هذا الاتفاق الشامل حول تعدد مواهب غسان، الأمر الذي جعل الجميع راضين عنه ومفتتنين به، لم يكن كذلك من ناحيته، فأمور كثيرة تشير إلى عدم رضى غسان عن نفسه كما رضى الناس عنه.
ومن بين هذه الأمور وفقا للأديب، الحوار النادر الذي نشرته مجلة "شؤون فلسطينية" بعد عامين من استشهاده، وفيه يحلل غسان نفسه ويتأملها بوعي المبدع حينما اعتبر أن شخصيته كروائي كانت متطورة أكثر من شخصيته كسياسي، وليس العكس، ما انعكس في تحليله للمجتمع وفهمه له، موضحا أن حوارات شخصياته في رواياته حول مشاكلهم كانت تدهشه، وعندما قارنها بالمقالات السياسية التي كان يكتبها بالتزامن، رأى بأن أبطال القصة كانوا يحللون الأمور بطريقة أعمق وأقرب إلى الصواب من مقالاته السياسية.
وفي هذا الجانب يرى نصر الله أن إجابه غسان تدفعنا لنسأل: هل يمكن أن يتجاوز الوعي السياسي للمبدع الحقيقي وعيه الفني؟ مجيبا: "لقد كتب كثير من السياسيين أعمالا أدبية انتهت كمنشورات حزبية تلقينية؛ ببساطة، لأن وعيهم الفني كان أقل بكثير من وعيهم السياسي. وكتب آخرون، كما يجيب غسان، وفوجئوا بأن أبطالهم كانوا أكثر وعيا من أطروحاتهم السياسية. دون أن ننسى أن هؤلاء الأبطال هم الكاتب، ولكنهم كثافته التي من الصعب أن تتشكل في أطروحات سياسية، ففي الكتابة الإبداعية لا يكون وعي الشخصيات وحده الحاضر، بل يكونون كلهم حاضرين بوعيهم ولا وعيهم أيضا، وبتجاربهم الإنسانية والنفسية، وقدرتهم على أن يكونوا شخصيات كثيرة في آن، وقدرتهم على حوار أنفسهم وهم يتعددون في واقع فني متناقض يستخلص منه القارئ موقفه الروحي والإنساني والجمالي والفكري والنفسي، بخلاف الأطروحة السياسية التي تبدو مفتقدة لتعدد المسارات، والتي هدفها عقل المخاطب لا تكوينه بأكمله".
وفي محاولة للإجابة عن سبب قدرة أبطال رواية غسان على تحليل الأمور بطريقة أعمق وأقرب إلى الصواب من مقالاته السياسية، قال نصر الله: لربما أجاب: في الكتابة عليك أن تكون جيشاً، أما في المقال السياسي فلا يلزمك أن تكون أكثر من فرد، ربما!
وتحدث الأديب في ندواته عن استيحاء غسان شخصيات أعماله من الواقع، معتبرا أنها ما كانت لتكون بهذه القوة، وهم ينتقلون من الواقع إلى الكتاب، لو لم تكن هناك هذه البصيرة الإنسانية لتأمل هؤلاء البشر، والقدرة الفنية الفذة على تحويلهم من أناس عابرين في الواقع إلى أناس مقيمين في الفن والحياة معا.
واعتبر نصر الله أن غسان قادر على تحويل الشخصيات في كتاباته إلى بشر وفكرة في آن، كما تحول غسان نفسه إلى إنسان وفكرة بإبداعه واستشهاده، فالشهادة بحد ذاتها كتابة أخرى لجوهر الكائن ومعناه وتعدد دلالاته واتساعها.
وتحدث نصر الله أيضا عن قدرة غسان كنفاني على تجاوز الزمن وعبور الذائقة المتحولة للأشخاص مع مرور الوقت، معتبرا أن من قرأ غسان في ستينيات القرن الماضي وأحبه، يقرأه اليوم ويحبه، لأنه قدّم أدباً جيداً، قادراً على أن يبقى جديداً، حيث أنّ كتبه امتحنت بعامل الزمن كأكبر ناقد يفوق امتحان النقاد التقليديين.
كما تطرق نصر الله إلى تجربته في التعرف إلى أدب غسان وحجم تأثير إبداعه الأدبي، وكيف شكل له عامل نجاة في فترة عصيبة عاشها كفلسطيني في صحراء السعودية، حيث خاض تجربة تدريس في عمر 22 عاما.
وقال: إن قراءة غسان كنفاني، أشعرته بأنه ذهب إلى المكان الخاطئ، حيث أن صحراء السعودية حينذاك، كانت مكانا بائسا وتنتشر فيه الأمراض، والمآل فيها يكون صعبا، وشعر بأنه يجب أن يكون في أقرب نقطة إلى فلسطين، وهي مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين في الأردن حيث نشأ، ما ترك أثرا كبيرا على كتاباته لاحقا، وكان بالنسبة له أشبه بسكة الحديد التي وضع عليها القطار.
وأضاف: "لولا غسان لما نجوت، ولكنت مثل كثير من المدرسين الشباب الذين معي وذهبوا الى هناك وأكلتهم الصحراء" مشيرا إلى أبطال قصة غسان الشهيرة (رجال في الشمس)، كمثال عن مآل الشبان الذين كانت الصحراء وجهتهم، ويقول: إنّ نهايتهم لم تقل قساوة عن نهاية أبطال الرواية.
في هذا الجانب، عبر نصر الله عن النوعية والفرادة التي اتسم بها أدب غسان، وقدرة رواياته على جلب التعاطف مع القضية الفلسطينية، معتبرا أن من قرأوا غسان لم يقرأوه لأجل القضية بل لأنه قدم أدبا جيدا.
وعليه رأى نصر الله أنه حق هؤلاء البشر أن يقرأوا كتب غسان والإبداع الفلسطيني لأنه جيد، ولا أريد أن يقرأوا لأنهم متعاطفون مع فلسطين، بل لأنها كتب جيدة موضوعة على الرفوف مع كتب أخرى، ومن يقرأ كتابك الجيد يتعاطف معك ومن يقرأ كتاباً سيئاً فإن الكتاب يسيء للقضية.
يذكر أن جولات الأديب إبراهيم نصر الله انطلقت من مخيم مار الياس في بيروت، وذهبت جنوبا واختتمت شمالا.