"بشيء من التبسيط نقول: إن إحراز أية دولة مرتبة عالية في المونديال يعطي شرعية للنظام قد تشكل سبباً كافياً لكبح جماح أي حراك ثوري مدة طويلة من الزمن. قطر من جهتها أهدرت 200 مليار دولار لتنظيم المونديال لغرض وحيد هو تعزيز شرعية الدولة والنظام."
لم أتفاجأ أبداً عندما وجدت مقالة لتيري إيجلتون يصف فيها كرة القدم بالأفيون. يبدو أننا جميعاً نستعير المفردة التي استعملها كارل ماركس في سياق مشابه من أجل وصف الدور الخطير الذي تؤديه كرة القدم في تكريس الهيمنة الطبقية، وتعميم ظاهرة الإنسان الممتثل الساذج الذي يقوم بإزاحة الصراع من حيزه الفعلي إلى حيز متخيل: من حيز السياسة أو النضال المطلبي الاجتماعي/الاقتصادي إلى حيز التنفيس بصراع كرة القدم الوهمي ضد الأعداء الوهميين. ولكي لا يظن بعض الأصدقاء أننا نتحدث فقط عن الأعداء الوهميين ل "منتخبنا" القومي/الإقليمي، فإننا نذكر الجميع بأن معظم عشاق كرة القدم يفرحون بالانتصار الوهمي لفريقهم برشلونة على عدوهم ريال مدريد أو العكس. يمكن لغزة أن تتعرض للقصف بوحشية بالتزامن مع بث مباراة "كلاسيكو" في الميادين العامة في رام الله ونابلس والخليل ...الخ في الأوضاع العادية لن يتنبه معظم الناس إلى قصف غزة لأن هناك صراعاً "أهم" هو صراع الكلاسيكو "الحاسم" والخطير.
هل يجهل أحد الدور الوظيفي الهام الذي يضطلع به الصراع "السياسي" الوهمي بين عشاق الوحدات وعشاق الفيصلي؟ بالطبع لا يجهل أحد من سكان الأردن أن الاصطفاف في مباراة بين الوحدات والفيصلي هو اصطفاف سياسي وليس رياضياً على الإطلاق. ولكن ما يجهله أنصار الفريقين هو أن ذلك الاصطفاف ضار بإقليم الأردن، وقضية فلسطين، وقضية الأمة العربية كلها. ونظن أن ذلك ليس في حاجة إلى توضيح تفصيلي بالنظر إلى الإزاحات التي يقوم بها هذا الاصطفاف، وكذلك التنفيس السياسي الذي يقوم به لمشاعر محتقنة كان من الممكن أن تؤدي دوراً ثورياً في صناعة التاريخ المحلي أو القومي في منطقتنا.
تشكل كرة القدم طريقة ساحرة لاحتواء تصاعد المد الجماهيري في نطاق الصراع الاجتماعي/الاقتصادي وصولاً إلى تسيسه التام، وتحوله إلى أداة للتغيير الثوري. كما تشكل اللعبة وسيلة رائعة لتكريس الدولة/الأمة بما في ذلك في الأحوال التي لا يرغب فيها "التاريخ التقدمي" بذلك، من قبيل حالات مثل فلسطين والأردن وقطر وجمهورية الصحراء وحتى دول مثل لبنان أو مصر أو سوريا. كرة القدم أداة طيعة وملائمة جداً لخلق أمة في خورفكان أو غزة أو جزر القمر، أنى شئتم. ومثلما يقول إيغلتون فإنه لم يتم اختراع طريقة فذة لتشويش رؤية الناس وإزاحة عيونهم عن الهم السياسي/الاقتصادي مثل كرة القدم التي قد تكون أمضى سلاح متوافر حتى اللحظة من أجل كبح جماح النهوض الثوري أو الاشتراكي.
تعرفون أن المجتمع الرأسمالي المعاصر قد حرم الإنسان من فرصة التواصل الأصيل مع إخوته البشر واعتقله منفرداً في شقته الصغيرة أو في جهازه المحمول أو في وظيفته الممتدة طوال الوقت غالباً متسمراً أمام جهاز. لقد أصبح الكائن االبشري مهدداً تماماً بضياع المعنى وفقدان القدرة على التواصل والإحباط والعزلة ...الخ ولا بد أن كرة القدم هي سياق رائع للتضامن والحماسة والمشاعر الجمعية التي تضع الفرد في لحمة نادرة مع الآخرين. فقط يمكن للحس الديني الأصولي على طريقة داعش أن يضاهي هذا الإحساس. بالطبع هناك اختلاف شكلي واضح بين كرة القدم الحضارية الجميلة التي تتلقى الترويج والمساندة من أجهزة الرأسمالية العملاقة، وبين داعش التي تصنف في دائرة الجنون حتى من قبل من مولها وسلحها ودربها.
بالطبع تلعب كرة القدم على ورقة البطولة التي تسري في دماء البشر. ويتحول بيليه الفاسد والمرتشي، ومارودنا عبد المخدرات وميسي سارق الضريبة ....الخ إلى معبودات نصف إلهية أو أكثر. في اللحظة الراهنة هناك بطل أسطوري متوج اسمه محمد صلاح يتفوق دون شك على جمال عبد الناصر وأمل دنقل وسمير أمين وطه حسين ومن خارج مصر يسبق اسمه حسن نصر الله وفيروز ووديع حداد ومهدي عامل...الخ ولا بد أن انتصارات صلاح تعني الجمهور المتحد من المحيط إلى الخليج أكثر بكثير من هموم اليمن وفلسطين أو هموم مصر الحقيقية التي يتم دفنها تحت طبقة رقيقة من سراب الانتصارات في المونديال التي تثلج قلب السيسي الذي لم ينجز شيئاً منذ انقلابه العسكري على مرسي باستثناء بيع الجزر المصرية للسعودية من أجل أن تصبح الأخيرة جارة للحبيبة إسرائيل.
ليس الفوز المصري بكأس العالم، لو كان ذلك ممكناً، مجرد إنجاز بريء لفريق كرة القدم المصري، وإنما هو حدث يوظف سياسياً من أجل تكريس هيمنة النظام وشرعيته. هل تذكرون كيف شارك رموز السياسة والاقتصاد الفلسطيني في "تتويج" محمد عساف ببطولة أراب آيدول؟ يحدث في حالة افتراض فوز المغرب أو السعودية..الخ بكأس العالم شيء أضخم بكثير. بشيء من التبسيط المخل جداً نقول: إن فوز السعودية أو المغرب بكأس العالم سيعطي شرعية للنظام قد تشكل سبباً كافياً لكبح جماح أي حراك ثوري مدة طويلة من الزمن.
كرة القدم تسحر الجنسين، إذ يجمع اللاعبون قوة المصارع إلى جاذبية راقص الباليه. وتقدم كرة القدم لعشاقها الجمال، والدراما، والصراع، وروح الكرنفال، والتطهير الذي يشبه مشاهدة المأساة إضافة إلى الرموز الهائلة التي تشبه بعض الطقوس الدينية إذ تحدد اللعبة ما ترتديه، ومن تربطك به، وما النشيد الذي تغني به. وإلى جانب التلفزيون، تشكل كرة القدم الحل الأسمى لهذه المعضلة القديمة التي يواجهها زعماء المجتمع ونخبه: ما الذي يجب أن نفعله مع الرعاع عندما لا يكونون منشغلين مباشرة بالعمل من أجل لقمة العيش؟
لا يمكن لأي شخص جاد بشأن التغيير السياسي أن يتجنب حقيقة أن اللعبة لابد من إلغائها. وهذا بالطبع دون أن نفكركثيراً في مئات المليارات، وربما الترليونات التي أصبحت ترافق لعبة كرة القدم والتي تأتي دون شك من جيوب الناس من أرياح الدنيا السبع.
هناك بيزنس واسع وهائل نما في ملعب كرة القدم يرافقه توظيف ساحق لرمزية معقدة تجعل من اللعبة أداة نموذجيه لكبح التعبئة الجماهيرية الثورية وتحقيق الانتصارات الوهمية وبناء القوميات الهلامية حيثما كان بالإمكان إعداد فريق كرة قدم يلعب بمهارة معقولة ليمثل أمة لا وجود لها إلا في عنوان المنتخب "القومي" المزعوم.
كلا، لا يمثل الاصطفاف مع منتخب فلسطين أو مصر أو السعودية أو المغرب ...الخ خدمة بأي شكل للأمة العربية أو قضاياها الثورية أو التنموية الضرورية والمشروعة والعادلة، بل هو بالعكس تغييب لتلك القضايا بما فيها قضية بناء الأمة العربية لمصلحة تكريس الهوية الإقليمية، وإعطاء الشرعية للأنظمة التي تقود تلك الأقاليم مهما كان أداؤها السياسي معادياً للأمة العربية في مجال السياسة أو المجالات الأخرى.