الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"كارما" – الفعل، والفعل المقابل| بقلم: فدى جريس

2022-11-20 05:57:59 PM

إزاء ما جرى مؤخراً من عنف وتعذيب وقتل للكلاب الضالة في الخليل، إثر إعلان رئيس بلديتها في حديث صحفي في بداية هذا الشهر عن نيته بإعطاء 20 شيلا (ما يقارب الخمسة دولارات) لكل من يقتل كلبًا، قام حراك كبير من محبي ومناصري حقوق الحيوان، إضافة إلى أفراد كثيرين من خارج هذه الفئة الذين غضبوا وارتاعوا مما جرى، وطالبوا بإيقافه. توقفت الحملة بعد وقت قصير، مخلفة عشرات وربما مئات الضحايا من هذه الحيوانات التي قتلت بأبشع الأساليب.

تابعت الأحداث كغيري وأنا في حالة صدمة شديدة ما زلت أنا وآخرون نعاني من مضاعفاتها حتى اللحظة. وبداية، أود أن أتطرق إلى الفكرة المتداولة التي تُرمى في وجهنا كلما أثرنا هذا الموضوع، وهي فكرة الإنسان وعذاباته في وطننا المعذب، وبالتالي "مين فاضي للحيوانات"؟ لكن عذاب الإنسان لا يلغي عذاب الكائنات الأخرى، بالذات لأننا نشكل جزءا من نفس المنظومة وهي الحياة على هذه الأرض. فنحن مرتبطون بالدائرة الحياتية التي تتضمن الحيوان والنبات التي نحتاجها للاستمرار على هذا الكوكب. لقد تسبب الإنسان من خلال ممارساته الصناعية غير المسؤولة وغير العابئة بالبيئة في قتل ملايين الحيوانات على مر العقود الماضية وانقراض مئات الأنواع منها، مما يعود علينا بالأضرار الجسيمة نتيجة الإخلال بدائرة الحياة والغذاء الطبيعية. ونظرة سريعة إلى تقارير كافة منظمات الصحة والبيئة العالمية ترينا حقيقة المشهد المرعب الآن على كوكب الأرض. فقد تسبب الإنسان في دمار هائل لبيئته يتضح جليًا في مستويات التلوث والاحتباس الحراري والتصحر، وتغييرات المناخ والكوارث البيئية المتزايدة الناتجة عن ذلك. فقد الإنسان السيطرة ودمر عالمه وما سنراه في السنوات القادمة أسوأ بكثير.

في ذات الوقت، يعاني الإنسان العربي – شأنه شأن العديد من شعوب الأرض – من الحياة في نظام قمعي يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الآمنة المستقرة. وفي سياقنا الفلسطيني نرزح تحت احتلال يزداد وحشية وبطشًا كل يوم. من المفارقات المثيرة للغضب أن انبرت بلديات وجمعيات في إسرائيل إثر ما حصل في الخليل للإدانة والتبرع بالمساعدة، في ذات الوقت التي لا يرمش جفن لهذه المؤسسات أو هؤلاءالأفراد بسبب الإجرام الممنهج التي تقترفه حكومة ومستوطنو بلادها بحق الفلسطينيين يوميًا. لكننا، هذه المرة، "جلبنا ذلك لأنفسنا"، فالصور والفيديوهات وكم الوحشية التي تضمنته لا تدع مجالًا للآخرين إلا للتشبث بصورتهم النمطية عنا كـ"إرهابيين" (في وقت تفوقت فيه إسرائيل وسائر الدول المساندة لها على أنفسها في الإرهاب والوحشية) ولإلغاء إنسانيتنا، مما يعطيهم ذريعة للتمادي في مشروعهم ضدنا. فهنيئًا لنا هذا الغباء.

تفسيرات كثيرة أعطيت لأسباب ما حدث، من تعذيب وقتل وهمجية، منها "دائرة العنف" حيث يؤدي العنف المٌمارس على الشخص – سواء من الاحتلال، المجتمع، المدرسة أو العائلة – إلى أن يمارس هو العنف على من هو أضعف منه، إنساناً كان أم حيواناً. لذا نجد النساء والأطفال ضمن هؤلاء الضحايا في مجتمعنا، فكم من النساء تُعذب وكم منها تُقتل وكم من الأطفال يُعامل بقسوة وإهمال وإلى ذلك.

ومن هذه التفسيرات أيضًا التخلف المجتمعي، والأمراض النفسية التي لا يتم علاجها، وعدم تربية الأهل لأبنائهم بشكل صحيح، وعدم أهلية الكثير من الأهل في الأساس لأن ينجبوا أطفالاً بسبب ظروفهم المجتمعية والنفسية، والفقر، ومسببات أخرى.

لكن كل ذلك يصبّ في نتيجة واحدة، أن العنف المستشري في مجتمعنا في ازدياد، وأننا لا نستطيع تعليق كل شيء – كما نفعل عادة – على شماعة الاحتلال. الاحتلال قاس وقذر ومجرم، لكن ذلك لا علاقة مباشرة له بأوضاعنا الداخلية كمجتمع يرفض التخلي عن تخلفه والنهوض بنفسه نحو الأفضل.

ما هي مشكلة هذه الحيوانات؟ أنها ببساطة جائعة، وبما أن الإنسان قد دمر بيئتها التي تصطاد بها تقريبًا بشكل كامل، فإنها تحوم حول وداخل التجمعات الإنسانية بحثًا عن قوتها. وبسبب وضعها تتعرض للأمراض والأوبئة، التي قد تضر بالإنسان، كالسعار وغيره، وبدلًا من مساعدتها – حتى من باب مساعدة نفسه – يستمر الإنسان في إجرامه ويعذبها ويقتلها، فتعيش جائعة وتموت معذبة، مريضة، مدهوسة أو مسمومة.

أما النقطة المرعبة أكثر من ذلك فهي إقدام الأطفال واليافعين على تعذيب وقتل هذه الحيوانات والاستمتاع بذلك، أي ما يسمى بالسادية، والمجاهرة به. لم أصدق أن هناك أطفالاً وشبابًا في فلسطين يمكنهم أن يقتلوا الحيوانات وهم يضحكون ويلتقطون صورا وفيديوهات "سيلفي" لمشاركتها. ولنا فقط أن نفكر قليلًا في ماهية التركيبة النفسية لهذا الطفل أو الشاب والكوارث التي تنطوي عليها. فهو بكل بساطة مجرم المستقبل، والمنحرف نفسيًا واجتماعياً، الذي يؤدي إلى استمرار الدائرة التي ذكرناها.

لا ينته تعذيب الحيوانات عند ذلك، ولم ينته مع نهاية الأحداث في الخليل، فهم يتعرضون للقتل يومياً في جميع المحافظات من خلال التسميم والدهس، والرمي والإهمال في حلقة لا نهاية لها، ناهيك عن الممارسات غير الإنسانية في مزارع تربية الدواجن والمواشي ولدى البعض من أصحاب الحيوانات العاملة كالحمير والخيل. ويتم تسميم آلاف الحيوانات سنويًا لتموت بعد عذاب مضن. إن العنف والاستهتار بعذاب كائن آخر هو من علامات الاضطراب النفسي والتخلف المجتمعي، ويتضمن مخالفات دينية وإنسانية وصحية وقانونية. إضافة إلى ذلك، فإن وجود سم الفئران، مثلًا، في متناول اليد وإمكانية شراؤه في فلسطين هو مناف للحال في البلاد الأخرى التي منعته، ذلك لأنه ممكن أن يتسرب من الحيوانات المقتولة إلى مياهنا وتربتنا وزرعنا وبالتالي غذائنا. الأمراض لدى الإنسان تكثر وتتفاقم ولا أحد يفكر في أسبابها، ومن ضمنها هذا التلوث والفوضى. كل ما يحتاج الأمر هو سن قوانين واضحة بهذا الشأن والتعاون مع المؤسسات البيطرية لإيجاد حلول بديلة.

لقد رأيت، من خلال انخراطي في موضوع مساعدة الحيوان، العديد من الناس الفقراء الذين يعيشون ظروفًا صعبة للغاية، يعلمون أطفالهم الرحمة والحنان، ويشفقون على الحيوانات الضالة ويطعمونها يوميًا في وقت بالكاد يجدون فيه قوتهم.

بالمقابل، هناك العديد من الأغنياء أو ميسوري الحال الذين لا يكترثون بل على العكس، لسبب غير مفهوم، نراهم أشرس الناس أحياًنا في الرغبة في التخلص من الحيوانات (القطط والكلاب) في محيطهم، في وقت يمكن أن ينفق فيه هؤلاء الناس في سهرة أو رحلة ما يكفي لإطعام هذه المخلوقات المسكينة لمدة شهر أو سنة.

وحتى ضمن الطبقة المتوسطة العادية، فإن كميات الأكل الباقي أو البائت التي تُرمى في القمامة يوميًا كفيلة بألا يجوع أي حيوان إذا وضع الناس هذه البواقي في أوعية خاصة – ممكن أن يضعوها على مسافة من بيوتهم إن أرادوا – مع أوعية فيها يعض الماء. لا يستغرق الموضوع أي جهد أو تكلفة، فالطعام سوف يُرمى، وطالما كانت هذه عادة الكثيرين في مجتمعنا بإطعام الحيوانات الضالة، لكن مستوى الشراسة والأنانية آخذ من ارتفاع مرعب في العالم كله، ولنا نصيب وافر منه.

تحثنا جميع الأديان والمعتقدات على التصرف بلين ورفق ورحمة. في القرآن الكريم ترد آية: "وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ" وهي وإن كان تفسيرها عدم أخذ الآخرين بالسوء، إلا أني توقفت عندها مراراً وتكراراً أمام هذه الأحداث المروعة. فقتل الحيوان له "خطيّة" بمفهومنا الشعبي، خطيئة كبرى عند الله وفي الكون بحسب جميع المعتقدات. في المسيحية يوصي المسيح بالرفق والرحمة اللذين يشكلان جوهر تعاليمه. في الديانات الهندوسية يوجد معتقد الـ"كارما" وهي ارتداد الفعل الجيد أو السيئ على حياة الإنسان. وحتى في قوانين الفيزياء، فكل فعل يقابله رد فعل مساوٍ ومضاد.

نصل إلى النتيجة، إذاً، أن هذه الأفعال الوحشية، وعذاب الحيوانات المسكينة على يد بعض البشر، والصور التي ترتعد لها الأبدان، لا يمكن أن يمر مرور الكرام. وكذلك العنف ضد بعضنا البعض، مرئيًا كان أم مستورًا. كل هذا يرتد علينا، وما لم نبدأ جاهدين في إصلاح أنفسنا ومجتمعنا، فإن حالنا واضح للعيان: من سيء إلى أسوأ.

إن موضوع الحيوانات الضالة، شأنه شأن أي شيء آخر، لا يتطلب الكثير من "الفذلكة" لحله. فله حلول واضحة وبسيطة تتطلب فقط أن تتحمل البلديات والمجتمع والأفراد المسؤولية تجاه محيطها وأن تتعاون في برامج تعقيم رحيمة وإيواء رحيم، ونشر ثقافة التبني والرفق، والعمل معًا للحد من انتشار جوع ومرض ومعاناة هذه المخلوقات المسكينة، الذي يؤذي الإنسان بالنتيجة. طالما طالبت الجمعيات والأفراد بذلك، لكننا نتجه للحلول "السهلة"، وما أسهل القتل والتعذيب، وما أكثر غياب الضمير والإنسانية.

مرة أخرى، لا ينفي موضوع الاهتمام بالحيوان الحاجة إلى الاهتمام بالإنسان. فأحدهم مكمل للآخر، والحيوانات خُلقت بأرواح تعيش وتحس وتتألم كما نحن. وكما أن لدينا حاجة قصوى للالتفات إلى المعذبين من البشر، هناك حاجة لإنهاء هذا العذاب الذي لا مبرر له والذي نصبّه على أضعف المخلوقات.

لقد بدأت بعض البلديات، كبلدية رام الله، في تنفيذ هذه البرامج، ونأمل أن تكون هذه الخطوة هي بداية الطريق. حان الوقت للارتقاء بأنفسنا كمجتمع والكف عن تعذيب الآخرين، فلربما ساعتها يكف الكون عن تعذيبنا نحن أيضًا. أملنا كبير في أن يبدأ الحراك الحقيقي من البلديات والأهل وسائر المجتمع أيضًا، وإن لم تحبوا الحيوانات فلا أحد يجبركم على ذلك، ولكن في أقلّه أرحموهم من شرّكم وحقدكم، ولا تنفثوا عقدكم النفسية بمن لا حول لهم ولا قوة. تحسبونه هينًا، وهو عند الله عظيم.

 

فدى جريس كاتبة فلسطينية صدرت لها عدة مجموعات قصصية باللغة العربية، وسيرة ذاتية مؤخرًا باللغة الإنجليزية Stranger in My Own Land.