عندما كان شعار القوميين والعروبيين أن "فلسطين هي قضية العرب الأولى"، ومن ثم حذفت الأنظمة الرسمية العربية هذا الشعار تدريجياً من خطاباتها، وانشغلت بقمع شعوبها، وتقهقرت القضية الفلسطينية لتصبح قضية الفلسطينيين وحدهم؛ يأتي كأس العالم ليبرهن من جديد أن فلسطين هي قضية الشعوب العربية وإن كره الرسميون العرب والمطبعون وإسرائيل. لا تحتاج فلسطين، لمنتخب وطني يمثلها في مباريات كأس العالم، فالفرق الأربعة المشاركة: قطر، تونس، المغرب، السعودية، شاركت بالنيابة عن الفلسطينيين وعن العرب جميعاً، فضلاً عن منتخبات أخرى من دول الجنوب المتعاطفة مع القضية الفلسطينية ومشجعو الدول العربية غير المشاركة في كأس العالم والذين أكدوا على الحضور الفلسطيني، وعلى أن فلسطين هي فكرة، والفكرةُ قد يتم الانشغال عنها، وإسكاتها، لكنها لا تموت.
وفكرةُ فلسطين، تظل حاضرة لأنها انتماء بالأساس لفكرة العروبة، فالعروبة تفقدُ معناها إن فُقِدَت فلسطين وإن اقتنعنا بأنها امحت عن الخارطة، وإن كان ذلك هو الواقع. لكن من قال إن الواقع هو الحقيقةُ. سؤال الواقع والحقيقة كان في صلب رد المشجع العربي بعد مباراة السعودية والأرجنتين على مراسل القناة 12 الإسرائيلية عندما عرف الأخير عن نفسه بأنه من إسرائيل، فرد المشجع بأنه ما من شيء اسمه إسرائيل، فرد المراسل: إسرائيل أمر واقع. نعم إسرائيل أمر واقع، مثلما قتل الفلسطينيين هو أمر واقع، ولكنه لا يعني قبول الفلسطيني بقتله، ولا قبول قاتله. مثلما التطبيعُ هو واقع، لكنه لا يعني أن يكون مراسل التلفزيون الإسرائيلي مرحباً به على أرض عربية، مثلما لا يعني أن يقبل المشجع محاورتهُ على شاشة قناة تلفزية إسرائيلية.
الفرقُ بين الواقعِ والقبول، هو معضلة إسرائيل التي لا يمكنُ أن تتخلص منها، لأنها معضلة وجودية تتعلق بخلاصها من نفسها أولاً، أي ألا تعود إسرائيل موجودة، عندها فقط تصبح إسرائيل مقبولة كجزء ماض من التاريخ الاستعماري لشعوب المنطقة. مثلما الماضي الاستعماري الفرنسي هو جزء من ذاكرة الجزائريين وذاكرة العرب. وأن تُعالج "إسرائيل" كموضوع ذاكراتي، لا كذاكرة حية تظل تستنطقُ ديمومة السلب والإسكات الفلسطيني والقهر العربي. وأن تكون هناك فلسطين خالصة، أو كما رد مشجع عربي على مراسل إسرائيلي آخر بالقول: "هناك فلسطين فقط".
"فلسطين فقط"، هو سقف تفاوضي تطرحه الشعوب على إسرائيل وعلى الحكام العرب، على من يفرضُ الأمر الواقع وعلى من يتنازل. شعارُ الوعي بواقع العرب والمعرفة بعدوهم. الوعي الذي لم ينهزم تحت مطرقة الكي، والذي يفرضُ وجوده لا بالقنابل الحارقة ولا من خلال تكميم الأفواه والقتل والزج في المعتقلات، بل بالبسيط من التعبيرات، بالهتافات الحماسية، وبرفع الأعلام، وبالمواقف المبدئية من قضاياه العروبية.
جاءت الهتافات في حفل الافتتاح عند إنشاد النشيد الوطني الفلسطيني "فدائي"، والنشيد اللبناني "كلنا للوطن"، والنشيد التونسي "حماة الحماة"، انعكاساً لوعي العرب بواقع حال الشعوب العربية المختزلة في قضايا الشعوب الثلاث تلك: الاستعمار والتبعية، الفساد السياسي، وتعثر عملية التحول الديمقراطي. فالشعوب العربية أذكى من حكامها، ومن مستعمريها في اختراق جدران الصمت المفروض عليها، والتعبير عن واقع أحوالها.
وعليه، تستعيدُ فلسطين صوتها مرتين، من خلال إصرارها على بقائها وصد عدوها، ومن خلال أصوات الشعوب العربية التي تعيشُ في أفئدتها. لذا، نتابعُ المونديال مطمئنين أن فلسطين إن لم تنتصر في هذا المونديال فستنتصرُ في المونديال القادم.