الحدث الثقافي
"فسحة تنفس تتيح للوطن المتفتت أن يلتئم حول مشترك ما" هكذا كان الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش يرى كرة القدم، درويش الذي عرف بحبه للمستديرة، وكان يصفها بأشرف الحروب، واعتبرها في كتاب "ذاكرة النسيان" ساحة التعبير التي يوفرها تواطؤ الحاكم والمحكوم في زنزانة الديمقراطية العربية المهددة بخنق سجانها وسجانيها معا.
مواقف كثيرة عبر فيها الشاعر الراحل عن شغفه بهذه الرياضة، أو كما أسماها هي الحرب الشريفة، ومن بينها:
عام 1982 تزامن حصار بيروت والقصف الإسرائيلي عليها مع كأس العالم لكرة القدم في إسبانيا، وفي حينها كان الشاعر الراحل يختبئ في أحد الملاجئ، لكن شغفه بكرة القدم وحبه للحياة، طغى على أصوات الصواريخ ورائحة الموت، فطلب من رفاقه أن يقوموا بإيصال التلفزيون ببطارية لأحد السيارات ليتمكنوا من متابعة المباراة.
وعبر درويش عن هذا الموقف قائلا: "ونحن أيضا نحب كرة القدم، ونحن أيضا يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن نرى المباراة، لم لا؟ لم لا نخرج قليلا من روتين الموت؟".
لقد وجد درويش في مشاهدة مباراة كرة القدم فعلا يقاوم به الخوف، ويواجه به عجز الاختباء في ملجأ من الصواريخ التي تمطر السماء من فوق رأسه، ووثق الحدث في كتابة ذاكرة النسيان حيث كتب:
"في أحد الملاجئ استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة. وسرعان ما نقلنا "باولو روسي" إلى ما ليس فينا من فرح، رجل لا يرى في الملعب إلا حيث ينبغي أن يرى. شيطان نحيل لا تراه إلا بعد تسجيل الهدف، تماما كالطائرة القاذفة لا ترى إلا بعد انفجار أهدافها".
وأضاف درويش: "وحيث يكون باولو روسي يكون الجول، يكون الهتاف، ثم يختفي أو يتلاشى ليفتح مسارب الهواء من أجل قدميه المشغولتين بطهي الفرص وانضاجها وإيصالها إلى أوج الرغبة المحققة. لا تعرف إن كان يلعب الكرة أم يلعب الحب مع الشبكة".
وتابع: "الشبكة تمنع، فيغويها ويغاويها بفروسية إيطالية أنيقة على ملعب اسباني حار. ويغريها بانزلاق القطط الهائجة المائجة على صراخ الشهوة. وعلى مرأى من حراس العرض المصون الذين يعيدون إغلاق بكارة الشبكة بغشاء من عشرة رجال. يتقدم باولو روسي بكامل الشبق، يتقدم لاختراق شبكة قابلة للنيل من عضلة هواء مرتخية عجزت عن المقاومة، فاستسلمت لاغتصاب جميل".
وكتب درويش أيضا: "كرة القدم، ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ الى ذباب مزعج! وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة، ويسري في الجسد والنفس كما لا تسري حماسة الشعر والنبيذ واللقاء الأول مع امرأة مجهولة، وكرة القدم هي التي حققت المعجزة، خلف الحصار، حين حركت الحركة في شارع حسبناه مات من الخوف، ومن الضج".
يقول الناشر في الصفحة الأخيرة من الكتاب: كتب محمود درويش هذا النص الساخن عن يوم طويل من أيام حصار بيروت عام 1982، بلغة متوترة، وبأسلوب يجمع بين السردي والشعري والقصصي والاختياري.
في إحدى قراءاته الشعرية، التي تزامنت مع مباراة بين فرنسا وإسبانيا، استهل الشاعر الفلسطيني محمود درويش كلمته بالقول: "أنا من جهتي أفضل متابعة المباراة حتى لو كان من سيحيي الأمسية المتنبي"، متعجبا من الحضور الذي كان متواجدا في القاعة التي تقام فيها الأمسية.
عقب نهائي مونديال 1986 الذي فازت فيه الأرجنتين بثلاثة أهداف لهدفين على ألمانيا، كتب درويش مقالا عن لاعب الأرجنتين مارادونا بعنوان: "مارادونا.. لن تجدوا دماً في عروقه بل صواريخ"، جاء فيه: "ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟ مع من سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى من نأنس ونتحمس بعدما أدمناه شهرا تحولنا خلاله من مشاهدين إلى عشاق؟ ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه، وعلى أملنا فيه، من الانكسار؟ يا مارادونا، يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة؟ ماذا صنعت بالمواعيد؟".