ارتبطتُ وجدانيا بشغف لايوصف، منذ فترة مبكرة من حياتي، بالجريدة الورقية والصحافة المكتوبة عموما، بحيث شكلت لديّ إلى جانب مذياع صغير، نافذتين مشرَّعتين تماما وجهة حلم لامتناهي بجدلتي الهنا والهناك، فأكتشف العالم رغم كل شيء، بصدر رحب.
وقد سَكَن الليل، تلتصق أذناي ليلا براديو ترانزستور صغير، لم يكن بوسع أنفاسه غير الاكتفاء بأثير جغرافية محلية،غير أنَّ تركيز وثراء ماكان يقدَّم آنذاك ثم عمقه بقدر نواياه الصادقة، بلور حمولة كافية حتى يغمر حواسي ترياق يانع؛ لاينضب، يحاور بين السياسي والفني والثقافي.
مع حلول الصباح، فأول ما أسرع إليه، بمجرد إبداء الشمس لأول خيوطها، يتمثل في الهرولة نحو كشك الجرائد، كي أنتزع حقي من هذه المتعة اليومية.
صلاة صباحية لاشيء يفسرها، وطقس فكري لاغنى عنه بتاتا. تتحدد نوعية حيثياته، حسب امتلاك الجيب لثمن الجريدة المتوخاة، أو انعدام ذلك.
حينها، أستعمل استراتجيه أولى قبل التفكير في اقتنائها.أرمي نظرة خاطفة صوب ملامح صاحب المحل كي أتبيَّن وأقيس درجات ظرفه من شره، فإذا حدسته شخصا أقرب إلى المنحى الأول، بالتالي لامجال لحدوث مشاكل، أبادر إلى تناول الجريدة بسرعة البرق وتصفحها لأكتشف بجرة نظرات خاطفة مضمونها، إن صادفته ثريا اقتنيتها دون تردد وإلا فلا داعي، مما يمنحني راحة ضمير داخلية مادمت حافظت بأمانة على عهدة مصروف المنزل.
ترقبت أسبوعيا،من سخاء صديقتي الجريدة، صفحة هامة جدا؛أشبه برحلة استجمامية تريح النفس من أثقالها وتزيح عنها أغلالها، أذكر وسأذكر، مقالة مسهبة تحت عنوان ''رسالة باريس'' اشتهرت بها جريدة الاتحاد الاشتراكي طيلة عقد من الزمان (1996-1986)،خلقت حيزا خاصا إعلاميا وسياسيا وثقافيا، تقدم حمولة إخبارية تحليلية مثلما تعرض لعناوين آخر الإصدارات الحديثة، ارتبط تدبيج نوعية فقراتها بالصحافي والكاتب والمثقف العضوي محمد باهي.
رجل استثنائي، يختزل فكره ومساره وأثره تاريخ، جيل الأحلام القومية والأممية الكبرى، وأزمنة الأنساق الإيديولوجية الملهمة.
ولد محمد باهي سنة 1930، في خيمة من خيام قبيلة أدوغلي الموريتانية، بمعنى تنحدر جذور سلالته من بيئة صحراوية، وأسرة أهل علم مرسَّخة لديها طباع أهل الصحراء، سيادة الثقافة الشفوية، البساطة، الصراحة، الصبر، الوفاء، وجَّهت أبناءها منذ الصغر نحو جملة معارف جوهرية؛ تتمثل في الفقه والقرآن والنحو والحساب والتاريخ ودواوين الشعر الجاهلي.
تقليد، لم يتخلف بخصوصه باهي الذي حفظ القرآن ولم يبلغ بعد السابعة من عمره. التهم جانبا كبيرا من متون الشعر الجاهلي، وأشعار المتنبي وذخائر اللغة والفقه ومرجعيات شنقيط. أيضا، اشتهر في هذا الإطار، بقدرته على استظهار وإنشاد قصائد المعلقات السبع.
عاين فترة شبابه، معاناة أرض موريتانيا والسنغال تحت نير الاستعمار الفرنسي، واستغلال خيرات المنطقة، لذلك انصب اختياره النهائي على تبني طريق النضال قصد المساهمة في تحرير شعوب المنطقة مما جعله تحت مجهر الاستعمار.
اضطُرَّ كي يغادر منطقته الأصلية سنة 1956، صوب ملاذ جنوب المغرب هاربا من مطاردة الفرنسيين، ثم الانضمام إلى جيش التحرير المغربي، وبداية عهده مع الكفاح المسلح.
بعد استقلال المغرب، انطلقت أولى خطوات باهي وفق دروب نضال القلم والكتابة، واعتماده بدل البندقية؛ في إطار التحول الذي أرادته الحركة الوطنية مع مجموعة من مناضليها الميدانيين، قصد الانتقال نحو موقع ثان يتجسد في صناعة وتوجيه الرأي العام. حينما اشتغل محررا بجريدة العلم يومية حزب الاستقلال، صحبة محمد عابد الجابري، بتأطير من الزعيم الأممي المهدي بن بركة .ثم، جريدة التحرير،خلال مرحلة تالية، المنبر الجديد الذي تأسس سنة 1959، تحت إدارة الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، كناطق باسم التوجه اليساري الجديد ضمن صفوف الحركة الوطنية أو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
بعد استقلال الجزائر سنة 1962، انتقل باهي إلى مدينة تلمسان مبعوثا لجريدة التحرير بهدف تغطية أخبار ما يجري. شارك هناك، في تأسيس جريدة المجاهد الناطقة باسم جبهة التحرير الوطنية، مثلما أضحى قريبا من قادة الصف الأول لثورة التحرير، ك : أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد، هواري بومدين، عبد العزيز بوتفليقة.
تواصلت التجربة الإعلامية لمحمد باهي، مع صحف عربية مرموقة كالسفير اللبنانية واليوم السابع الفلسطينية التي احتضنت مقالاته، وكذا خصوبة أوراش نظريات محمد عابد الجابري. ساهم بخبرته في إرساء لبنات صحيفة الشعب السورية، وترأس وكالة الأنباء العراقية.
ساند انطلاقة الثورة الفلسطينية سنة.1965هكذا، بادر شهر غشت 1968 في مدينة باريس، رفقة العديد من السياسيين والمثقفين العرب، إلى تشكيل ضمن صفوف الطلبة لجنة العمل العربي دعما لفلسطين ، بحيث أتاح منزل باهي مضمارا فسيحا لعقد لقاءات وتنظيم حوارات ونقاشات حول برنامج الثورة الفلسطينية، أثمرت صدور أول مجلة باللغة العربية تحت عنوان "آفاق عربية''، اعتُبِر باهي أحد كُتَّابها الأساسيين.
مِثْل باقي أفراد جيله من الماسكين بمشعل قيم التحرر والنهوض و الانعتاق، أمسك به إحباط جراء صدمته فاجعة هزيمة يونيو1967، مع انطلاق معركة الكرامة شهر مارس 1968، انتقل صوب وجهة قواعد الفدائيين في الأردن وسوريا ولبنان والعراق.
كان أول صحافي عربي، وطأت قدماه الأراضي الليبية إبان الأيام الأولى للثورة التي قادها معمر القذافي سنة 1969 .
عاد باهي إلى المغرب سنة 1996، بعد سنوات طويلة من ترحال المنفى،غير أنَّ المنية داهمته سريعا بمجرد تحسُّس خطواته من جديد عتبة الوطن، جراء نوبة قلبية باغتته يوم 4 يونيو 1996، لم تمهله قط، بسبب معاناته الصحية مع مرض القلب،متأثرا جدا بحدثين رئيسين، وقعا بكيفية متواصلة .
تحيل الأولى،على فقده لابنته نتيجة حادثة سير. بينما، تستدعي الواقعة الثانية، التي لاتقل وجعا عن الأولى، اصطدامه بمقاومة شديدة أبداها رفاقه السابقون أمام رغبته الجامحة قصد تفعيل تصوراته عن مشروعه الإعلامي.
موت، حتما، غير قابل للموت، نظرا للحيوية الكبيرة التي شغلت تفكير الرجل، كشف عنها الروائي الكبير عبد الرحمن منيف، الذي جمعته مع صاحب ''رسالة باريس''،علاقة أخوية طويلة ومتينة، إلى درجة أنه خصص لرثائه عملين أساسيين ضمن حلقات كتابات منيف الرائدة، إبداعا وبحثا، مثلما يعلم قارئ الأدب العربي المعاصر.
يتعلق الأمر، بدراسة بحثية طويلة ظهرت سنة 1997، عنوانها :''عروة الزمان الباهي''،تعد في نهاية المطاف، وثيقة كافية لتخليد ذاكرة باهي، حسب جل تفاصيلها الشخصية اليومية والإبداعية الرمزية.
أما، المرجع الثاني، الذي تركه منيف في هذا الإطار دائما، فيشير إلى لوحته الشفافة والنبيلة : لوعة الغياب (2003)،أو مرثياته بخصوص رحيل مجموعة أعلام وطدت بفضل قيمة أعمالها الإبداعية، روافد حقيقية لبوصلة الثقافة العربية خلال العصر الحديث.
تضمنت شهادة منيف التأبينية، فصلا، سلط الضوء على جوانب من سيرة محمد باهي، ضمن مختارات أسماء أخرى من عيار :
سعد الله ونوس، جبرا إبراهيم جبرا، مهدي الجواهري، غائب طعمة فرمان، جميل حتمل، إميل حبيبي، حليم بركات، يوسف فتح الله، حسين مروة.
مات باهي، دون أن ينجز أهم أحلام حياته، وقد كشف عنها منيف أقرب رفاقه إلى طيات هواجسه:
*كتابة تاريخ يوثق لتراث الحركة الوطنية المغربية؛
*سرد تجاربه في مجالي السياسة والصحافة؛
* إنجاز بحث أكاديمي يرصد مظاهر البداوة التي تميز الفكر والسلوك العربي؛
* الإحاطة بمدينة باريس التي خبر أسرارها جيدا، من خلال تهيئ دراسة في الموضوع، بحكم إقامته الطويلة وعشقه لعاصمة الأنوار؛
* أن يسجل بصوته كل أشعار المعلقات السبع أو العشر؛
*مشروع كتابة رواية.
محمد باهي، ثائر حالم،ينحدر من زمن غير الزمن، شَكَّل رحيله خسارة للحياة حسب معناها الحقيقي، لكنه مع ذلك غير قابل للموت، سيظل وجوده راسخا مابقيت الحياة، في تربة الحالمين دائما بوطن ملؤه الإنسان.