حضور فلسطين وعدالة قضيتها، بعلمها وكوفيتها، في سماء الملاعب وعلى وجوه عشاق كرة القدم، كان طاغياً بصورة غير مسبوقة، بل، وربما أنها تفوقت على مشاهد مونديال 1982 في أسبانيا "13 يونيو- 11 يوليو"، عندما أهدت فيه ايطاليا،التي تربعت على عرش المونديال، كأس العالم للشعب الفلسطيني وصمود ثورته في مواجهة العدوان والحرب الاسرائيلية على لبنان والثورة الفلسطينية، حيث تزامن المونديال مع ملحمة الصمود الفلسطيني اللبناني على أبواب بيروت لأكثر من ثماني وثمانين يوماً.
صحيفة هآرتس اعتبرت في افتتاحيتها قبل أيام أن فلسطين، وقبل مباراة النهائي، هي التي تتوجت في مونديال الدوحة، فقد كانت حاضرة ومشاركة في جميع المباريات حتى المربع الذهبي الذي كادت أن تعبر المغرب جدار احتكاره نحو النهائي. هذا الحضور العربي المتقدم في اللعبة الشعبية الساحرة، والتي نجحت فيه قطر، وتفوقت على كل من سبقها باستضافة المونديال منذ عشرات السنين، إنما يعكس القدرة العربية على الاستثمار في ابراز ثقافة العرب ومكانتهم التاريخية في صنع وتلاقح الحضارات الأخرى.
الاعلام العبري والمشاركين من الاسرائيليين لم ينجحوا سوى في اظهار خيبة الأمل من مدى عمق واتساع عزلة اسرائيل على صعيد الشعوب عربياً وعالمياً، بما في ذلك لدى شعوب دول ما يسمى "الاتفاقات الابراهيمية"، وبما يعكس فشل سياسة نتانياهو والحكومات الاسرائيلية في استراتيجيتها محاولة تخطي القضية الفلسطينية وحقوق شعبنا، و محاولة نزع عدالتها الحية التي لا تموت، ومكانتها المستدامة في قلوب وضمائر شعوب الكون قاطبة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل علينا أن نركن لهذه العزلة، والتي بالتأكيد كانت مثار اهتمام وتحليل لدي مراكز الأمن القومي وأبحاث السياسات الاستراتيجية وصناع القرار السياسي وتشكيل الرأي العام داخل اسرائيل ولصالحها، لاستخلاص العبر من هذا الفشل المريع بالنسبة لهم. والسؤال المرادف الآخر ماذا فعلت الدبلوماسية الفلسطينية لاستثمار هذا الحدث الكوني، أولاً لتوليد هذا المشهد وتأصيله مرة تلو الأخرى في أذهان ومنصات شعوب العالم ، وثانياً لبلورة خطة دبلوماسية لاستثماره سياسياً، سيما في كيفية تحويل هذا التعاطف والتضامن الهائل من شعوب الكون في مشهدية المونديال إلى خطوات سياسية ملموسة وسياسات عملية محددة، تقرها دول وحكومات هذه الشعوب ازاء ترسيخ عزل سياسة الاحتلال والاستيطان والعنصرية الاسرائيلية، والتي باتت تتحول من وجهة نظر الأغلبية الساحقة من شعوب العالم إلى دولة أبارتايد، لا يميزها عما وصلت اليه جنوب أفريقيا سوى أن ضحية الفاشية النازية أي اليهود ، يفرزون اليوم حكومة تضم وزراء ارهابيين لا يتورعوا عن الافصاح عن عنصريتهم وفاشيتهم ، وهم موسومون بالارهاب والجريمة المنظمة، بما في ذلك من أوساط شغلت مناصب عليا في المؤسستين العسكرية والأمنية في اسرائيل ذاتها، كما أفصح عن ذلك "اليميني" موشي يعلون وزير الجيش السابق في حكومة نتانياهو ، والذي حمَّل نتانياهو مسؤولية عار فضيحة اشراك مجرمين متهمين بالارهاب في حكومته ، وفق تصريحات يعلون نفسه.
لا أريد هنا أن أبدو كمن يجلد الذات، فأنا، كما مئات الآلاف إن لم يكن ملايين الفلسطينيين، لست من عشاق كرة القدم،ولكن الحقيقة التي لا لبس فيها أن هذه الملايين وبفعل انحسار خياراتها و تعبيراً عن حاجتها للمواجهة الموحدة وجدوا أنفسهم يشبعون رغباتهم ومشاعرهم عبر الشاشات و مختلف وسائل التواصل، في كونهم جزءاً لا يتحزأ من لوحة المونديال التي تحمل فلسطين في قلبها، في وقت أن من يحجز استراتيجيته في أقفاص ما يسميه "بالتدويل"، فعليه أن يراجع جوهر سياساته، ومدى ثقته بقدرة الشعوب على الانتصار لقضايا العدل والسلام، بما يعنيه ذلك من مغادرة جدران الرهان والكسل الفكري الحبيسة في وهم البحث عن تسوية . بينما يسائله الناس حول مكانة الدبلوماسية الشعبية في العمل الدبلوماسي الفلسطيني، و ما مدى صلة الدبلوماسية الرسمية بتنوع أشكال الدبلوماسية الناعمة والشعبية، والتي بدت مشاهد المونديال في الدوحة واحدة من تجلياتها، ولكنها بالتأكيد لا تقتصر فقط عليها.
فقد حققت حركة المقاطعة “BDS” نجاحات أساسية جوهرها ابراز عدالة القضية الفلسطينية، والنضال المشروع لشعب فلسطين في مواجهة محاولات وصمه بالارهاب ، واظهار فشل مؤسسات المجتمع الدولي في مسائلة اسرائيل، وحق أحرار شعوب العالم في هذه المساءلة، حتى تستجيب دولها بضرورة النأي بنفسها عن الدعم الأعمى لاسرائيل، و ضرورة التصدي للاحتلال والعنصرية والفاشية المتنامية في المؤسسة الاسرائيلية، كما بدأت تتغلغل في نسيج المجتمع الاسرائيلي بفعل حالة الاستسلام لهذا الواقع، الناجمة عن عدم اكتراث المجتمع الدولي لمسائلة اسرائيل على جرائمها، سواء تلك التي تتصل بالاعتداء على حق الفلسطينيين في الحياة والحرية، أوالسيطرة على مورادهم ونهب ثرواتهم ومصادر رزقهم من قبل جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين التي يخطط بن چڤير لتحويلها إلى "ميليشيا رسمية مسلحة" تمارس أعمال الجريمة المنظمة، وفقاً لتصريحات جانتس وزير الجيش المنتهية ولايته .
يجرى ذلك وبتسارع شديد، في وقت أن الرئاسة الفلسطينية كانت أول من أبدى الاستعداد للتعامل مع من ينتخبهم الاسرائيليين، في اشارة لحكومة تضم سموتريتش وبن جڤير و أقرانهم من حركة كاخ، استكمالاً، بل واستسلاماً لسياسة اللهاث خلف والرهان على ما يعرف باستراتيجية "التدويل، والوهم بأنها يُمكن تحقق نجاحات في تحميل اسرائيل المسؤولية عن فشل تسوية أوسلو"، والتي تضع حكومة نتانياهو بنفسها لتدميره، وسحقه بدباباتها وأصوات ناخبيها منها، على حد سواء.
هذا في وقت أن مكانة اسرائيل في اطار منظمات حقوق الانسان ليست سوى نظام عنصرى يمارس سياسة الأبارتايد كما عبرت عن ذلك منظمة أمنستي و مؤسسات حقوقية أخرى. ولم يكن الفضل في ذلك سوى للدبلوماسية الشعبية التي تقوم بها شبكات حقوق الانسان و الشبكات التنموية الدولية، التي تضم في اطارها مؤسسات فلسطينية وعربية متميزة على صعيد حقوق الانسان والتنمية البشرية .
بذات القدر فقد أظهر المونديال وحدة مشاعر الشعوب العربية التي كما وقفت مع فلسطين، فقد اصطفت جميعها خلف المنتخب المغربي الشقيق، الذي لم يُضيّع جمهوره أية مناسبة لابراز الهوية والعلم والكوفية الفلسطينية، بينما حكومته الأكثر عمقاً في التطبيع مع حكومة الاحتلال، وللأمر دلالته ازاء مفهوم القومية العربية التي لم تتخلى عنها شعوب العرب، ولكنها ظلت حبيسة المشاعر والعاطفة القومية على أهمية ذلك، وقد فشلت الحركة الوطنية الفلسطينية سيما في العقود الثلاث الأخيرة في اذكاء هذه المشاعر لتظل أطواقاً تحاصر العنصرية الاسرائيلية وتمنعها من تحييد الدول العربية عن قضية العرب المركزية رغم كل الأزمات التي تمر بها.
مهام وأسئلة كبرى كشفها المونديال و روح التضامن التي فجرتها الجماهير المحتشدة في ملاعب وشوارع وأسواق قطر ، وهي برسم الاجابة عليها، حتى لا نكون كما العديد من المرات السابقة ضحايا استسهال "الرضى عن الذات"، وحتى لا نصبح أيضاً ، بعد أن انفض المونديال وحيدين في ساحات القتل والاغتيال اليومي الاسرائيلي لأبنائنا، و نستمر عاجزين عن مواجهة الانقسام والصراع الفئوي بين أطرافه، التي لم تعد ذات صلة حقيقية بروح الناس ونبضها وقضيتها الوطنية .