يقول عالم السياسة الأمريكية "والتر ليبمان"، عندما يفكر الجميع بشكل مشابه، فلا أحد كنهم سيفكر كثيراً، وهذا يعني انه عندما تسود ذهنية واحدة بين مجموعة ما، فإن احتمالات التفكير البناءة والخلاقة تقل بين هؤلاء.
وهنا يصبح من الصعب التنبيه لوجود وجهات نظر أخرى تقدم حلولاً وبدائل مختلفة ومغايرة لما هو قائم، يمكن من خلالها التنبيه لمخاطر وتحديات محدقة أصبحت عناوين لمعطيات الحال.
وفي سياق ذلك، هل من المفترض البقاء رهينة أفكار تقليدية نزع مضمونها وتفككت معانيها وربما أصبحت عبء، وهل يمكن قراءة المستقبل بأدوات الماضي، دون تجديد للرؤية أو توظيف للمتغيرات بما يخدم مستقبلنا، وهل السياسة حكر على مجموعة لم تعد تحتمل الاجتهاد للتفكير بشكل مغاير كما وصفها "والتر ليبمان".
لقد شكلت نتائج الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الأخيرة في نوفمبر الماضي إنزياحاً طوعياً نحو اليمين، بشكل رأى فيه الكثير من المهتمين بالشأن السياسي انقلاباً مفاهيمياً ونظرياً في النظام السياسي الإسرائيلي، وهم على حق في رؤيتهم لتوصيف النتائج، ولكن وبعيداً عن البعد البنيوي لما يدور بالشأن الإسرائيلي، فهو وضع طبيعي لنظام سياسي نشأ على العنصرية والإضطهاد والقتل و تهويد الأرض وممارسة الاستيطان الاستعماري، وأقام دولته وكيانه على حساب شعب حاضر منذ زمن الأبدية على هذه الارض، وهو شعب لا يجيد سوى فن البقاء والسيرورة على نهج أجداده الكنعانيين رغم جسامة التضحيات.
فإسرائيل الدولة والمجتمع هي تجسيد لعنصرية ولعقل تواراتي جسدتها مراحل ووقائع المراحل التي مر بها الاحتلال على مدار سنوات وسنوات.
فنتائج الانتخابات الأخيرة والمساعي الحثيثة لزعيم الليكود "نتنياهو" تجاه تشكيل حكومة يمينية ثوراتية، من المفترض ألا تشكل لنا مفاجأة أو صدمة أو استغراب، فهي إعادة انتاج لما هو قائم وهي دولة احتلال أولاً وأخيراً بغض النظر عن طبيعة نظامها السياسي وهيكلته وطرق إدارته، ونحن شعب تحت الاحتلال يسعى لحقه في تقرير المصير والاستقلال.
نعم ، نعترف أنه كلما انزاح المجتمع الإسرائيلي ودولته وحكومته نحو اليمين، كلما زادت التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحضوره الأزلي على هذه الأرض، ولكن، وبعيداً عن حالة التفكير التقليدي والمصطلحات التي لم تعد تتناسب والحال أو الإنعزال والتزام الصمت والخرس الفكري، دعونا نقول أن ما حدث وما زال يحدث من محاولات تشكيل حكومة استيطانية استعمارية هو فرصة لنا، نعم هو فرصة يجب استثمارها عظيم الاستثمار برؤية جديدة وإرادة مغايرة وتمرد على شروط الماضي وعبرة مما دار ويدور، فرصة يمكن من خلالها فضح هذا الاحتلال وهذا النظام السياسي المتطرف، وعنصرية مجتمعه عبر التأكيد من خلال حراك دبلوماسي فلسطيني، بان هذه الدولة التي طالما تغنى بها الغرب وبديمقراطيتها ما هي إلا دولة لا تمارس الديمقراطية الحقيقية كما روج لذلك، بل هي عنصرية وتمييزية وما أفرزته نتائج الانتخابات الأخيرة ألا مؤشر على عمق الحقد التي يمارس ضد الشعب الفلسطيني، وكل ما هو موجود فقط ديمقراطية تخدم علاقاتها الخارجية وتسوق نظامها السياسي العنصري.
وأن إسرائيل كما تفهمها كثير من الغرب، هي دولة لم تعد ترغب بالسلام بكل الاجتهادات والتصورات التي تقوم عليه عملية السلام الممتدة منذ زمن نكاد أن ننسى تاريخ بدايته من حجم المماطلة التي تتميز بها كل حكومات إسرائيل، وأن ما نسمعه من تصريحات لأركان اليمين الإسرائيلي من "بن غفير وسموتريتش وغيرهم" ما هي إلا دليل مكتمل الأركان بأن لا جدول لعملية السلام على طاولة أي حكومة إسرائيلية قادمة، بل أن مشروع ابارتهيد قادم لا محالة ضد شعبنا الفلسطيني في الداخل وفي الضفة الغربية وما يجرى من توصيفات للمسؤوليات التي يزمع اعطاءها نتنياهو لهؤلاء هي في سياق تنفيذ مشروع تهجيري يجب ألا ننتظر كثيراً من اجل الاستعداد له وفضحه ووضع الآليات لمواجهته. اسرائيل تمارس تحريضاً ممنهجاً وتمارس سلوكاً عدوانياً خطيراً، لم نعد نحتمله من عمليات قتل يومي ضد شبابنا في مدننا بالضفة الغربية، وانتشار للجريمة والعصابات بغطاء مؤسساتي ضد شعبنا بالــــ 48، وقصف وتدمير في قطاع غزة، وهو ما يجب على المجتمع الدولي الوقوف عنده والعمل على إدانته بكل الادوات الممكنة.
ومن الاهمية القيام بجولة عربية، لإعادة التأكيد أن كل ما يدور من محاولات خلق سلام ما هو إلا وهم، وان نتائج الانتخابات الأخيرة والإنزياح الواضح نحو المزيد من التطرف ما هي إلا رد على كل التفاهمات والاتفاقات من "الإبراهيمية وغيرها" وأن هذه الدولة لم تكثرت لأي فعل يوفر بيئة حاضنة حقيقية للسلام في المنطقة، وان أي اتفاقات معها هي فقط تصب في صالح ترويج الفكر الإسرائيلي الذي لا يؤمن بوجود شعب آخر، وتخفي في باطنها تحريضاً ضد الشعب الفلسطيني. ولا بد من التاكيد للعرب زعماء وحكومات وشعوب أنهم عمقنا وظهرنا الذي لا يمكن تجاوزه أو التفريط فيه، وأننا في فلسطين خط الدفاع الأول عن الأمة كاملة.
كذلك يشكل لنا هذا التحدي الناتج عن وجود حكومة إسرائيلية يمينية، للعمل على انهاء الانقسام والاتفاق على حكومة وحدة وطنية تتجاوز شروط الرباعية بل لا تكثرت لأي تصريحات هنا وهناك تدعو للالتزام بعملية السلام وشروطها في حين تفعل اسرائيل ما يحلو لها بل وضربت بعرض الحائط كل ما يمكن أن يشكل ركيزة لاستمرار هذا السلام الذي اسرنا في إطاره. وأن يكون برنامج هذه الحكومة وكل تفاصيله قائم على فكرة واحدة وبلا توصيفات هو انهاء الاحتلال.
التفكير المغاير هو الذي يخلق حراكاً فكرياً قادر على مواجهة التحديات كما يقول عالم السياسة الأمريكي "والتر ليبمان" وابقاء نفس النهج والانطواء تحت سقف فلسفة الصمت وانتظار الآخرين لتقديم الحلول والتصورات هو هروب من مواجهة التحديات، والادعاء بأن البيئة الدولية منشغلة وغير ملائمة أو القول أن البيئة العربية متهلهلة هو من باب القبول بالواقع، نحن فقط من يملك القدرة على الزام الآخرين بحقوقنا واحترام ارادتنا، فلم يأت يوما كان في صالحنا ولن يأت في المستقبل من يقدم لنا ما نريد.
ارجعوا إلى التاريخ تفحصوا أحداثه واستحضروا تفاصيله، ستجدون أن من يصنع ذواتنا نحن وليس الأخرين.