في القراءة المعمقة لما يحصل في دولة الكيان، نرى أن شكل الحكومة الإسرائيلية القادمة سيترك تأثيراته السلبية العميقة على وحدة المجتمع الصهيوني، وكذلك على "هوية دولة الكيان" واعادة تعريف اليهودي،ناهيك عن العديد من القضايا الأمنية الإستراتيجية، التي اجل عمداً الأباء والمؤسسين للحركة الصهيونية حسمها، حتى لا تحدث تصدعات وتشققات تلقي بظلالها على وحدة الكيان الصهيوني المتبلور.
واضح بأن تلك الدولة تنتقل من دولة يهودية الى دولة شريعة، وبان الأصولية الصهيونية تنتقل من اطراف المشروع الصهيوني الى قلب هذا المشروع، وباتت المتحكم في مفاصل القرار السياسي لدولة الكيان،وكذلك ستصبح المتحكم في الحكومات الإسرائيلية من حيث البقاء والسقوط، وما تحدث عنه مؤسس الحركة الصهيونية بن غوريون، بأن "بوتقة الصهر" للمجتمع الإسرائيلي،والتي يقف في مقدمة ادواتها، الجيش مدركاً اهمية اقامة جيش عسكري واحد موحد يمثل دولة الكيان، بديل لجيش العصابات الصهيونية الذي ساد قبل نكبة شعبنا الفلسطيني عام 1948، عصابات الهاغانا والأرجون وشتيرن والايتسل والبلماخ ذراع النخبة للهاجانا.
وضمن هذه الرؤيا والقناعة لم يتردد بن غوريون بعد مضي وقت قصير على إقامة دولة الكيان على اتخاذ قرار بحل كل التشكيلات والعصابات الصهيونية ودمجها في الجيش الناشيء، وفي سبيل تكريس احتكار السلاح والعسكرة في يد الجيش لم يتورع عن اغراق السفينة "التلينا" التي كانت تهرب السلاح لعصابات ايتسل في 23/6/ 1948، وعندما رفض القائمين عليها تسليم السلاح للجيش، أمر بقصفها، حيث قتل 16 عنصر من طاقمها و3 من جنود الكيان.
إعطاء صلاحيات حرس الحدود بالضفة لـ "بن غفير" يعتبر أول تأثير على وزارة الجيش. فهذا الأمر سيُحدث تداخل في الصلاحيات وتضارب في نشاطات جيش الاحتلال وحرس الحدود لأن كل مؤسسة لها مرجعية مختلفة. فالجيش سيزداد حقداً وتطرفاً تجاه الفلسطينيين أكثر من السابق لأنه بات يركن أنه له ظهر يحميه من الصهيونية اليهودية.. وكذلك الجماعات الاستيطانية والمتطرفة ستزيد من وتيرة اعتداءاتها ضد الفلسطينيين لأنها تعلم أن لديها وزراء في الكنيست يقفون خلفهم. ولا ننسى كذلك تعزيز مكانة الحاخام العسكري الرئيسي،والتي سيجري شرعنة منصبة عبر نص في القانون،يحدد آليات تعينه واستقلاليته،وبموجب القانون، "سيُعيّن الحاخام العسكري الرئيسي من جانب لجنة برئاسة الحاخام السفاردي الأكبر، ومؤلفة من 5 حاخامات وسياسي وضابط،ووفق القانون أيضاً، "سيخضع الحاخام للحاخامية الكبرى، وليس لقائد هيئة الأركان العامة للجيش".وكذلك بن غفير سيكون له جيش خاص في الضفة الغربية مكون من المسرحين من الجيش والشرطة وزعران المستوطنين باسم الحرس الوطني،ناهيك عن مسؤوليته عن الجيش والشرطة العاملة في الضفة الغربية والقدس.
"بوتقة الصهر" نتيجة جملة التطورات والتغيرات السياسية والإجتماعية والإقتصادية،والإنزياحات التي تشهدها دولة الكيان منذ عام 1996 نحو اليمين والتطرف،وما نشهده حالياً من تحول الكيان من دولة يهودية الى دولة شريعة باتت أمام تحديات جدية وجذرية،وبما ينذر بحدوث تصدعات وتشققات في جيش الكيان، وكذلك ان تنتقل السيطرة للمليشات على الجيش.
رؤوف زيفلين رئيس الكيان السابق تحدث عن أربع قبائل تتقاسم الكيان، العلمانيون 38% و27% عرب، و25% يهود أصوليون دينيون و15% يهود صهاينة متطرفون، وتذوب كتلة العلمانيين برأي زيفلين تدريجياً لصالح تعاظم مكانة كتلتي الأصوليين الدينيين والصهاينة المتطرفين، اي جماعة الكنيس بدلاً من الكنيست،وفي هذا السياق وجدنا رئيس وزراء دولة الكيان نتنياهو اضطر، إلى تقديم تنازلات كبيرة ومثيرة للجدل - على الصعيد الداخلي والخارجي على حد سواء - لحلفائه من الأحزاب اليمينية الدينية القومية المتطرفة، كجزء من الاتفاقات الائتلافية التي تشكلت على أساسها حكومته الجديدة،ومن بين هذه التنازلات التي تؤشر الى سيطرة سلطة الكنيس على الكنيست، سيتم إدراج ميزانيات المدارس والمعاهد اليهودية الدينية ضمن ميزانية الدولة والتي تشمل رصد ميزانية إضافية ضخمة، كما سيتم إلغاء "الإصلاحات الدينية" التي قامت بها الحكومة المنتهية ولايتها بما يعزز الصبغة الدينية اليهودية للدولة، كذلك سيتم استحداث تشريع يجيز الفصل بين الجنسين في الأماكن العامة، يضاف الى ذلك تولي حزب "ناعوم" ،اليمين المتطرف آفي ماعوز، المناهض لمجتمع "الميم"، دائرة "الهوية اليهودية القومية"، وهي مديرية محدثة ستكون مسؤولة عن البرامج الخارجية في وزارة التعليم.
اما عند الحديث عن سيطرة العصابة على الدولة،فيجب ان نلحظ المتغيرات الكبرى التي حصلت وتحصل،والتي تؤشر الى تعمق أزمة الكيان السياسية والمجتمعية،وخطورة التنازلات التي قدمها نتنياهو لشركائه من الكهانية اليهودية ومجتمع الحرديين "يهوديت هتوراة" و"شاس" ، حيث سيشرف زعيم حزب "الصهيونية الدينية"، المتطرف والمستوطن، بتسلئيل سموتريتش، على وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (المحتلة) و"الإدارة المدنية" للاحتلال في الضفة الغربية، وهو منصب وزاري مستجد في وزارة الأمن.علما بأن هذه الوحدة والتعيينات المرتبطة بها (المنسقة ورئيس "الإدارة المدنية") والتي كانت تخضع لقرار المؤسسة العسكرية،كما حصل حزبي "الصهيونية الدينية" و"عوتسما يهوديت" على تعهدات من نتنياهو بالدفع قدما بعملية ضم أراض فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وفرض "السيادة الإسرائيلية" عليها، وتعزيز الاستيطان في الضفة.
في حين سيتسلم زعيم حزب "عوتسما يهوديت" الفاشي، إيتمار بن غفير، وزارة الأمن القومي مع سلطة توجيه السياسة العامة للشرطة وتحديد "المبادئ العامة لعملها"، كما سيكون مسؤولا عن وحدة "حرس الحدود" العاملة في الضفة والقدس المحتلتين، وستمنح وزارته ميزانية إضافية تقدر بـ45 مليار شيكل لسبع سنوات،وقبل إقرار موازنة العام 2023، سيقدم حزب "عوتسما يهوديت" للكنيست مشروع قانون جديدا يقترح إعدام الفلسطينيين المدانين (في القضاء الإسرائيلي) بتنفذ عمليات ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه،وستعترف الحكومة بالبؤر الاستيطانية غير القانونية المقامة في الضفة الغربية بدون موافقة الحكومة خلال 60 يوما،ولن يخضع مستوطنو الضفة الغربية للحكم العسكري بعد الآن بل سيكونون ذراعا أمنية لوزارة أمن الاحتلال.
ما يحدث عملياً في حكومة نتنياهو، وما يحصل من تطورات وتحولات في دولة الكيان، تؤشر الى سيطرة الكنيس على الكنيست والعصابة على الدولة والمليشيا على الجيش،وكل هذه التحولات والتغيرات، بمثابة وصفات الانتحار في قلعة ماتسادا أو الموت قبل الثمانين لدولة الكيان في حروب أهلية متعددة الجبهات.