أَفَلَ عَامُ 2022، انتهى يوم 31 كانون أول/ ديسمبر، كما ينتهي أي يوم سابق أو لاحق، وأضحى عام 2022 جزء من الماضي، دون نهاية العالم، أو حتى دون أحداث جسامٍ، أو أحداث أقل من جسام، ودون زوال إسرائيل، تلك الخرافة التي انتشرت منذ ثلاثين عامين ونيف، واعتمدت على (تطويعات) رقمية، يمكن بإعادة ترتيب تلك الأرقام التنبؤ بأي شيء، وكل شيء- لأنه لا منهج علمي فيها - من ظهور حضارة اتلانتس، ولغاية اختفاء قارة آسيا من الوجود، ولم تنشب الحرب العالمية الثالثة، ولم تحدث حرب نووية بين روسيا والغرب، ولم يُباد ثلث سكان العالم، ولم ينهار الدولار الأمريكي، ولم تحدث مواجهة بين الصين وأمريكا، ولم تظهر فيروسات جديدة أُفلتت من عِقالها من مختبر بيولوجي صيني أو أمريكي، بل أبسط من ذلك، لم تنتهي الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية، ولم تحدث مفاجآت في الانتخابات الإسرائيلية، بل حتى اعلان المصالحة في الجزائر، لم يُلْقى له بالا في الشارع الفلسطيني، وَمَرَّ مُرُورُ وَرَقَةِ شَجَرٍ صَفْرَاءَ فِي اَلْخَرِيفِ.
دَرَستُ الفيزياء منذ ثلاثين عاماً خَلَت، وحصلت على لقبي العلمي الأول فيها، قبل انتقالي للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، ومن أبجديات الفيزياء، ثُلاثية إِحداث النتائج، وهي المدخلات، المعالجة، المخرجات، بمعنى لا يمكن الحصول على مخرجات ونتائج دون توفر مدخلات قادرة على تحقيقها، والأهم المعالجة، وهي الإجراءات والتفاعلات اللازمة وفق منهجية علمية لتحقيق النتائج أو المخرجات، وهذه الثلاثية تحكم كل قوانين الطبيعة، ونواميس الكون، من اعداد رغيف الخبز، ولغاية عمل المفاعلات النووية، ومن مرتكزات التنبؤ العلمي البديهية، أنه يأتي في مرحلة متقدمة جدا من تراتبية العلم، بمعنى يجب أن يسبقه، وصف، تفسير، فهم مُعَمّق للظاهرة، مسببات، مدخلات واضحة، بيانات شاملة، عوامل مساعدة، أثر العوامل الأخرى، اختبارات مخصصة، دراسة الظروف المحيطة، مؤشرات ... وغيرها، ليتم في نهاية المطاف التنبؤ بقضية معينة، وبها نسبة خطأ، مثل الحالة الجوية، أو فعالية لقاح، فكيف بمن يتنبأ بنهاية العالم!!، ولو كان التنبؤ قضية سهلة كما تبدو للبعض، لأضحى أي متنبئ هاوٍ مليونيرا في غضون ساعات، من خلال التنبؤ فقط بسعر صرف العملات اليومي.
ومن هنا تبثق الأسئلة الجوهرية البديهية لكل المتنبئين "الاعتباطيين": ما هي مدخلات تنبؤاتكم؟ وهل هناك منظومة عمل وفق منهجية علمية لإنفاذ تلك التنبؤات؟ وما هي مؤشرات تحقيق التنبؤات؟
نهاية العام 2022 كانت كفيلة بالإجابة العلمية المباشرة على أن تلك التنبؤات لم تكن سوى خُزعبلات، وربما هذا السلوك يمكن تبريره لبعض هواة المنجمين، رغبة بالشهرة، أو الظهور الإعلامي، او لجني المال، ولكن لا يمكن تبريره لمن يدّعي الفكر، أو الخبرة بالسياسة، أو الاقتصاد، أو ديناميات التحولات الاجتماعية، لأن تلك التنبؤات ستعمل على خلق حالة وهم، يمكن أن تؤثر على أجيال كاملة ممن لم يُعْمِلوا عقولهم بالتفكّر والتأمل العلمي، إما بالاستكانة والسلبية، بانتظار تحقق النبوءات الوهمية، أو بخلق احباط جَمْعِيّ، فَمَعَامِلُ اَلِارْتِبَاطِ بَيْنَ سَقْفِ اَلتَّوَقُّعَاتِ وَمِقْدَارِ اَلْإِحْبَاطِ والخيبات طَرْدِيٍّ دَوْمًا.
ومع انطلاق العام 2023، نحو أحوج ما نكون إلى اتباع منهج علمي على صعيد التفكير، والعمل، والسلوك، وفي كل مناحي الحياة، فهو الرافعة الرئيس للتطور والارتقاء للأمم والشعوب، فلم يذكر التاريخ أن تقدمت أمّة وسادت في العالم، دون مُقَوِّمات العمل المطلوبة، ودون اتباع منهجيات علمية، ودون توظيف العلم ومخرجاته في شؤون الحياة كافّة، وتزداد أهمية المنهج العلمي في الحياة المعاصرة، كون العلم ومخرجاته من تقانة متنوعة، وذكاء اصطناعي، والأتمتة، والرقمنة، أضحت مُحرك الحياة، ولها الغَلَبَة الآن، وستتعمق غَلبَتُها في قادم السنين، ومن استطاع قيادة ناصيتها، وتوظيفها لصالحه مَلَك وساد، ومن وُظِّفت عليه، سيبقى متلقيا، متخلفا، يَقْتَاتَ مِمَّا تَسَاقَطَ مِنْ مَوَائِدِ اَلْأُمَمِ اَلْمُتَقَدِّمَةِ.
انّ نهر العلم جارف، وتياره قوي، وغوره عميق، ولن يقف لينتظر من تخلّف عن ركبه، وتطوراته متسارعة، ولن ينتظر من تلكّأ في امتطاء صهوته، والفجوة الحضارية والمعرفية، ستزداد وتتسع بين من يتخذ العلم منهجا، ومن يلجأ للأوهام والأمنيات والتوقعات والآمال، والعلم هو السبيل لتحرير الإنسان من الأوهام، والأفكار السلبية، والعبودية للآخر القوي، وعقدة الشعور بالنقص تجاه الأقوى، وهو أيضا مِعْوَل هدم للأمراض المجتمعية المختلفة، والعلم والفشل نقيضان، ولا يتطلب من الإنسان أن يكون عالما ليتمسك بالعلم، وإنما ينبغي عليه اعتماد منهجية علمية في حياته كافّة، والتي بالضرورة ستخلق مجتمعا متمسكا بالعلم، قادر على إحداث التغيير المجتمعي المطلوب تجاه تحرير الانسان من السلبية، واطلاق قدراته وطاقاته، الأمر الذي سيسهم في تحرير الأوطان من الاحتلال الفكري الذي يغزو العقول، والاحتلال المادي الذي يغتصب الأرض، والتاريخ لن يرحم الأمم المتخلفة عن ركب العلم، ولن يبرر لها احتلالها الفكري والمادي في ظل تقاعسها وتشبثها بالأوهام والأمنيات، وَلَا عَزَاءً لِلْمُتَوَهِّمِينَ بِغَيْرِ اَلْعَلَمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَمَلِ.