الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة على الكون منذ العام 1944، وعلى الرغم من التباس الطابع المطلق لتلك الهيمنة أيام الحرب الباردة، إلا أن القوة السوفييتية وقوة حلف وارسو لم تشكلا نداً جدياً للقوة الأمريكية. بعد أفول الاتحاد السوفييتي في العام 1990 تحررت القوة الأمريكية من القيود كلها، وأطلقت حروبها الصريحة في أماكن عديدة بحثاً عن المزيد من السيطرة على الموارد والثروات في كل مكان. وفي هذا السياق دشنت حرب الخليج الثانية ضد العراق بعد دخوله الكويت بتشجيع أمريكي واضح. وقد كانت ثمار تلك الحرب أرباحاً صافية للولايات المتحدة حكومة وشركات نفطية وصناعية في الميادين المختلفة وعلى رأسها صناعة السلاح والاتجار به. بالطبع تم تغطية نفقات الحرب مع أرباح خرافية من ميزانية الكويت والدول النفطية الأخرى. كما خضعت آبار النفط للحماية/السيطرة الأمريكية شبه المطلقة منذ تلك اللحظة.
بعد أن استتب لها الأمر في منطقة "الشرق الأوسط" اتجهت الولايات المتحدة نحو أوروبا لاحتواء التطلعات التي ولدتها ظروف ما بعد الحرب الباردة. كان لا بد من خلق أعداء من أي نوع: إرهابيين عرب ومسلمين، عصابات مخدرات هنا وهناك، تهديدات من دول مارقة تسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل من قبيل كوريا والعراق..الخ. بعد ذلك تهيأت فرصة تاريخية للولايات المتحدة في نطاق الدول المتولدة من تفكك يوغسلافيا من قبيل صربيا والبوسنة وكرواتيا ومكدونيا. وقد جرت أمريكا حلف الأطلسي وأوروبا الغربية خلفها في حرب استمرت سنوات عديدة هدفت إلى إخضاع صربيا وإحكام القبضة على أوروبا على السواء. وما لبثت مطلع الألفية الجديدة أن دقت طبول الحرب الكاذبة باتجاه كوريا الشمالية وطبول الحرب الفعلية باتجاه العراق متذرعة بأسلحة الدمار الشامل وصولاً إلى احتلال البلد وقتل رئيسه ونهب موارده وإقامة سلطة ألعوبة في يد الولايات المتحدة. لكن جزءاً من المشهد في المنطقة العربية ظل "شاذا" في تحديه للرغبات الأمريكية. وقد تمثل ذلك في إيران وسورية والمنظمات المقاومة الحليفة لهما وعلى رأسها المقاومة اللبنانية. شنت إسرائيل حرباً بقرار أمريكي سنة 2006 ضد لبنان انتهت بما عده معظم المحللين والمتابعين انتصاراً للمقاومة وخسارة صافية لإسرائيل وأمريكا. بعد ذلك ستنشغل الولايات المتحدة وإسرائيل في مشاريع محمومة لتفكيك سورية وإيران. ولحسن الحظ أو مهارة التدبير يقدم السياق الذي يتولد معه حراك جماهيري عربي تائه منذ سنة 2010 خدمات جليلة للهيمنة الأمريكية، لكنه يتزامن مع تسارع الصعود الصيني وتعمق المقاومة الروسية التي ترفض محاولة واشنطن فرض حصار عليها شرق أوروبا عن طريق ضم بلدان الاتحاد السوفييتي السابق واحدا تلو الآخر إلى حظيرة حلف شمال الأطلسي.
اليوم تتضح أكثر من أي وقت مضى استراتيجية الولايات المتحدة العاملة في خدمة تعظيم أرباح الشركات الأمريكية على حساب البشرية كلها بما فيها أقرب الحلفاء. وفي هذا النطاق نستطيع ملاحظة العناصر البارزة التالية:
أولاً: إخضاع شريكيها في مركز العالم الرأسمالي أوروبا الغربية واليابان على نحو أكبر من أي وقت مضى باستغلال الحروب المفتعلة في المنطقة العربية وشرق أوروبا وتوتير الأوضاع في شرق آسيا مع خلق أخطار حقيقية أو موهومة في مواجهة الصين وكوريا الشمالية. لا بد أن تبتاع أوروبا واليابان المزيد من الأسلحة الأمريكية، ولا بد أيضاً من إقامة المزيد من القواعد الأمريكية واستقدام عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين وطائراتهم وصورايخهم إلى ميدان الحدث.
ثانياً: توسيع مدى سيطرة حلف شمال الأطلسي ليمتد شرق أوروبا إلى أقصى حد ممكن ليشمل العالم السوفييتي السابق كله. وهنا يتحقق غرضان أحدهما تحول ذلك العالم إلى منطقة نفوذ أمريكية على طريقة جمهوريات الموز الشهيرة، وثانيهما إضعاف روسيا لتتحول إلى دولة إقليمية صغيرة.
ثالثاً: تعزيز القبضة المطلقة على موارد النفط والغاز في المنطقة العربية ووسط آسيا بما يخدم الأهداف السياسية والاقتصادية الأمريكية بما في ذلك الاستفادة الهائلة من بيع النفط والغاز الأمريكي في ظل فرض حصار على روسيا تم إجبار أوروبا على الانخراط فيه.
رابعاً: خلق المشاكل المختلفة للصين باستخدام ذرائع من قبيل حقوق الإنسان ومشاكل المسلمين الإيغور وقضية التبت ورجوع تايوان إلى الوطن الأم الذي كانت واشنطن توافق عليه، ولكنها شرعت في المناورة والمناكفة بغرض استخدامه لجر الصين إلى حروب باردة تستهلك طاقتها وقدراتها وصولاً إلى تفكيكها كما حدث مع الاتحاد السوفييتي أو احتوائها على أقل تقدير.
خامساً: تهميش مناطق العالم التي لا تتمتع بقيمة اقتصادية أو استراتيجية وتجاهلها وتركها لمصيرها المظلم.
لسوء حظ الطغمة الرأسمالية الأمريكية الاقتصادية والسياسية فإن المقاومة العالمية تتصاعد في مناطق كثيرة من أبرزها الصين في شرق آسيا، وروسيا في أقصى شرق أوروبا، وإيران في "الشرق الأوسط" وفنزويلا والبرازيل في أمريكا الجنوبية. وعلى الرغم من القوة العسكرية الأمريكية الهائلة التي لا سابق لها في التاريخ، فإن وجود قوة الردع النووي والفاعلية الاقتصادية الصينية المذهلة قد تشكلان أساساً كافياً لإزاحة الولايات المتحدة عن سدة الهيمنة وإسقاط مشروعها الاستراتيجي القائم على استخدام القوة العسكرية لمواصلة نهب العالم إلى أطول زمن ممكن.