خاص الحدث
عشرون أو ثلاثون صورة ومقطع فيديو، بث مباشر وآخر خضع للمونتاج، بعضه تضمن نصا تعريفيا وآخر موسيقى، مسار واحد لهدف وحيد على شكل سؤال إشكالي بسيط: كيف تعرّف كريم يونس على الحرية؟ ماذا عنت له الأشياء؟ قبر أمه والفطور وكرة القدم والسلطة والأحزاب والأشجار والشمس.. رصدت الكاميرا انفعالاته التي رآها البعض باهتة، وآخرون اعتبروها من إنتاج الصدمة، وهناك من بالغ في تكثيفها أو تفكيكها، ولكن الثابت أن أحدا لم يستطع الوصول إلى ذات كريم، الذي حاصرته عشرات الكاميرات محاولة توثيق من هو في الفضاء الآخر.
الأكيد أن كريم يونس لم يتكلس لديه الشعور، كما قال في أكثر من مقابلة، وإنما وجد أن الضرورة الثورية تقتضي أن يختزله. تلعب الكاميرا في هذه الحالة دورا معقدا، ضد الثائر مع الثورة، أي أنها تريد من هذا الأسير الذي قضى 40 عاما من السجن أن يكون لسانا ناطقا باسم الثورة والصمود والقوة، ولكنها تحرمه في الوقت ذاته من أن يكون "أنا" وأمي وكل الأشياء بسقفها الإنساني وسياقها العالمي. لقد كانت الـ 40 عاما في السجن، "أنا" وأمي وكل الأشياء بسقفها الثوري.
الذات.. والأخرى العابرة لها
يطمع الأسير خلال سنوات اعتقاله جميعها، إلى لحظة واحدة يستطيع فيها التعبير عن مشاعره بشكل تلقائي، دون أن يمر التعبير في ممرات الضبط والسيطرة داخل مجتمع الأسر الذي تبدو فيه قيمة الفرد الاجتماعية في علاقة طردية مع قدرته على التخلي عن ذاته الاجتماعية - ما قبل السجن- لصالح الذات السياسية التي تشكل لديه الفعل الاجتماعي، أي أن كونه أسيرا ناضل من أجل قضية سياسية، فإن مجتمعه الجديد يفترض أو يفرض عليه أن يصبح عابرا لهموم وعادات وأفكار وهواجس الأفراد العاديين في المجتمع الخارجي.
يعرف الأسرى المحررون أكثر من غيرهم كم أن للحلم في المنام خصوصية لدى الأسرى إلى درجة أن يحلم الأسير في الوعي أن يحلم في اللاوعي
الأسرى، مجتمع ضابط كأي مجتمع، له قوانينه ومفاهيمه وسياقات خاصة تشكل لديه منهجية التفكير في الأشياء. تصبح الملعقة مثلا في السجن ذات أهمية عالية مقارنة بخارجه، والأم تتحول من روتين اليوم إلى هاجس الأيام، حتى الأحلام التي يراها الأسير في منامه تنشط لديه ذاكرة الحرية، ويصبح العالم الخارجي -الطبيعي- بالنسبة له عالما متخيلا، ويجتهد في أن يخلق علاقة بين المنام ومجتمعه في السياق الطبيعي، لذلك يعرف الأسرى المحررون أكثر من غيرهم كم أن للحلم في المنام خصوصية لدى الأسرى إلى درجة أن يحلم الأسير في الوعي أن يحلم في اللاوعي.
وإلى جانب المجتمع الضابط، فإن إدراك الأسير أن السجن هو الحيز الزماني والمكاني الذي يريد الاحتلال أن يشكل لديه وعيا عكسيا تجاه قضيته السياسية، وتحويله إلى شخص تسيطر عليه الهواجس الاجتماعية المرتبطة بعالمه الاجتماعي في الخارج، فإنه يحاول أن يحدث خرقا في معادلة الاحتلال، فتجده يصبح أكثر انتماء لقضيته السياسية كنوع من أنواع المواجهة، ويبدأ بالتحلل من اعتباراته الذاتية والاجتماعية أيضا في سياق المواجهة. ولهذا، يمكن الافتراض أن الضبطين؛ الظرفي والشخصي، يلعبان دورا مهما في تقلص الذات.
السلبية القادرة على الاحتواء
ولكن هذه السياقات الخاصة في تشكل الوعي الاجتماعي وحتى العاطفي لدى الأسير تبقى بالنسبة له أشبه بالسلبية القادرة على احتواء المتغيرات، وتقييمه لها على هذا الأساس، يكشف عن حاجة تبقى ملحة لكنها مؤجلة بوعي وبواقع فوق الواقع. هذا الوعي قد يتشكل بطريقة حذرة في البدايات، لأن الأسير يحاول قدر الإمكان أن لا يفقد عالمه الطبيعي، لكنه في مرحلة ما ينخرط بوعي ولا وعي في عملية تشكيل الذات الجديدة أو الذات الضرورية.
وكما أن التحول من عالم طبيعي إلى عالم فيه كل هذه التعقيدات والمتغيرات يحتاج إلى بعض الوقت، إلا أن أقصى ما يطمح له الأسير هو الوصول للحظة التي يخرج منها من ذاته المتشكلة في سياق السجن، وهذه ليست لحظة واحدة، تُختزل بخروجه من فضاء هندسي مغلق إلى فضاء أكثر تحررا، وإنما من فضاء اجتماعي وعاطفي إلى آخر، تتشكل فيه المعاني في سياقها الطبيعي -قبل السجن-. وهنا يبدأ الأسير بأولى محاولاته لاستعادة ذاته الاجتماعية والعاطفية.
التحول من عالم طبيعي إلى عالم فيه كل هذه التعقيدات والمتغيرات يحتاج إلى بعض الوقت، إلا أن أقصى ما يطمح له الأسير هو الوصول للحظة التي يخرج منها من ذاته المتشكلة في سياق السجن
العزاء النرجسي الثوري
لكن هذه المحاولة في استعادة الذات، عادة ما تصطدم بأدوات ضبط جديدة، تعيده إلى الذات السياسية المتكلفة اجتماعيا. توثق الكاميرا زيارة الأسير لقبر أمه، فيصبح تحت تأثير ضبط أدوات سياسية، فلا يمكن له أن يتحدث مع القبر كما يريد، ولا أن يسرّ لأمه كما يشاء. يتحدث عن الوطن والقضية والعزاء النرجسي، ولو ذهب وحيدا إلى هناك، لقال غير ما سمعنا، وبهذا نكون قد حرمناه من لحظة الانعتاق، ومن المعنى الحقيقي للتحرر من السجن، الذي لا يمكن أن يكون تعبيرا عن الخروج من الهندسة المادية.
توثق الكاميرا كذلك غداء وفطور ولقاء وابتسامات و… ألخ. كل ما وثقته الكاميرا هو الذات المقيدة بالكاميرا، والطبيعة المتوترة بالضبط، وليس من المبالغة القول إن ذلك يحجب عن الأسير طبيعته التي تتشكل افتراضاتها في حدودها العفوية والتلقائية، ويعقد مسألة العودة إلى الذات، فالكاميرا تغذي هندسة الوعي العابر للذات. ولا شك أن المناضل في كل مراحل نضاله يفترض أن يعبر ذاته نسبيا، لكن في بعض المحطات واللحظات هو بحاجة لهذه الذات المتحررة من قيد الرمزية والعام.