لا أدري كيف يحتمل الإنسان أربعين عامًا من العتمة، العتمة ضد كل شيء جميل، العتمة هي القهر، وهي السلب،
وهي الفقر والجوع والذل،هي الموت بحد ذاته. كل ما أعلمه عن احتمال العتمة تلك التسعة شهور التي يتخلّقُ فيها
الإنسان في رحم أمه، وهو مربوطٌ بحبل الحياة، يتغذى وينتظر الحياة من مسافة صفر. أما أن تكونَ في قلبِ الحوت، وأنت من المسبِّحين بحمد ربِّ الوطن الذي كفر به كثيرون، أن تكون بهذا الصبر، وهذه العظمة، فوالله إن هذا لكثيرٌ جدًّا علينا يا كريم.
أيُّ دايةٍ تلك التي بشَّرت فيك يا كريم، حتى قذفتك من رحم أمك إلى بطنِ العتمة، لتخرجَ بعد هذه العقود القاحلات خصبًا فكرًا وروحًا وحياة؟!
لم نكن نعرف كريم يونس، ولا ندّعي ذلك، ولعلَّ أكثرنا كان غائبًا عن هذا المجد الذي انتظره الظامئون أربعين عامًا، ليلتقطوا الصور، ويهتفوا:عاش البطل حُرًّا حرًّا، في حين أنهم/ أو بعضهم/ لم يكلف نفسه باتصال هاتفيٍّ مع والدتهِ قبل أن تسافر إلى العلياء حزينةً منتظرةً، بعد أن صنعت كريمها على عينها.
أيُّ كريمٍ هذا الذي نتغنّاه ونتمنّاه وننسجه الآن عباءةً تدفّئنا في الليالي الباردة، وأيةُ عباءةٍ قادرة على ستر عوراتنا!؟
يا كريم! عندما الْتَهَمَكَ الحوت كنا أطفالًا نتسكّع في الحارات، تلك الحارات التي ظلت عالقةً في ذاكرتك الأولى، ولمّا تعد كما كانت بعد أربعين عتمةً وأحد عشرَ زنزانةً وأربعين سريرًا تمزّقت حدائدها ولم تتمزق عزيمتك.
كنّا لا نعرف عن الوطن شيئًا سوى أننا لاجئون من غير سوء، وصار الوطن يكبر والجرح ينزف، والعزاء يطولُ فينا، والبياضُ يخطُّ على سوادِ المثقلين قصائدَ الصمتِ الثقيل.
يا كريم! هل قلتَ لنا: لستُ بحاجةٍ للبكائيات، والوقوف المطوّلِ على المرآةِ لشد ربطات العنق، فالمشهد يبدو جميلًا لو كانت القمصان غير مكوية، فيكفينا أنَّ أرواحَنا اكتوت بأيدٍ ما كنّا لها حاسبين؟!
يا كريم! أشعِل شمعتك الأولى عند قبرِ أمك، واكتب لها: لا أعتذر عما فعلت. فالذي فرح بحريتك مَن تسكن هذا القبر، وهي الجديرةُ بالاحتفال، أما المشتغلون بالسيلفي والأسير خلفي فلا عزاء لهم، وهم في هُوَّةِ البعد غارقون.
يا كريم! لقد تعلمنا صبر أيوب، وإنا وجدناك نعمَ الحُرَّ صابرًا رغم نارٍ كَثُرَ موقدوها، فانفث عليها بسم الله ما شاء الله، واقرأ مجدك آيةً أُخرى في سطورِ الخالدين.
أيّها الكريم الكريم، أخبرنا عن بطن الحوت، ونحن لسنا له بعالمين، وقل لنا عن معجزات الصبر، فلربما متنا بليلٍ واختبرنا العتمةَ الكبرى، فكنّا صابرين.
ما أسوأ أن يتبلَّدَ الإحساسُ، إحساسُنا، وما أبشعَ أن نفقدَ القدرةَ على التعبير، فالحياةُ – ولا عذرَ لنا- أخذتنا إلى حيث يكون الموت، فلم نمت كما نشتهي، وما زلنا نتفسُ دون طعمٍ للهواء. وهنا نقف ملبَّدين أمام كلام كريم:" مش عارف أعبِّر عن شو أنا حاسس، أول مرة بشوف الشمس بعد أربعين عامًا..." فهو كان داخل الزنازين الضيقة، أما نحن فها نحن، وما أدراك من نحن!؟ نحن كل شيء ولا شيء، والأمور بخواتيمها. ونحن ختمنا كلَّ أبجديات النضال، ولم نحفظ سطرًا واحدًا من سطور صبرك يا كريم. فالمعلقاتُ التي كتبتَها في غياباتِ الجبِّ لم نلتقط منها سوى صورتك الشابة قبل أربعين عامًا، وأنت الكريم النشيطُ الشاب المفعم بالحياة، وها هي الصورة تعود أكثر إشعاعًا وبريقًا، وأنتَ تنظرُ فينا حُرًّا طليقًا، وتفسر صمتنا بدمعتين وابتسامة. فالله اللهَ يا بن الأرضِ ما أعظمك، وما أنبلك وما أجملك!
تخرجُ الآن من ظلامِ السجن إلى نور الحرية، لكنك يا كريم، لن تجد النور كاملًا، فمصدر نور الحياة يختفي في المساء، فإذا أظلمت العشية، تذكَّرتَ أُمَّكَ داعيةً مبتهلة، فقفْ على شرفةِ الحياة، وقل لها كلامًا يردُّ لها شيئًا من أربعين عامًا في الانتظار، واكتب سيرتها على دفاتر قلبك، حتى تظلَّ حيَّةً فينا/فيك/ فيها إلى أن يشاء الله.